فلسفة كاستورياديس الأحادية والتاريخ الاجتماعي

اقرأ في هذا المقال


بالإضافة إلى تأثير الفلاسفة على كورنيليوس كاستورياديس فقد تأثرت فلسفة وسرد للخيال بعمق بقراءته لفرويد وانخراطه في التحليل النفسي، حيث أصبح هذا الاهتمام أكثر وضوحا خلال السنوات التي أعقبت نهاية مجموعة الاشتراكية أو البربرية، وفي ذلك الوقت انخرط في المدرسة الفرويدية في باريس (L’Ecole Freudienne de Paris – EFP) التابعة للمحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان (Jacques Lacan) وتزوج أيضًا لبعض الوقت من المحللة النفسية بيرا أولانييه.

الأحادية في فلسفة كاستورياديس:

في تفسيره لفرويد ركز كاستورياديس على مفهوم التمثيلات (Vorstellungen) خاصة في كتابات عام 1915، كما كان يعتقد أنّ بحث فرويد عن أصول التمثيلات جعله أقرب إلى فكرة الخيال الأساسي من استكشافاته للمفهوم الأكثر شهرة لفانتازي (الخيال).

جادل كاستورياديس بأنّ تحقيقات فرويد أدت (ضمنيًا ولكن ليس صريحًا) إلى استنتاج مفاده أنّه بالنسبة للنفسية البشرية لا يوجد جهاز ميكانيكي صارم يحول المحركات الجسدية إلى تمثيلات نفسية، ومن وجهة نظر كاستورياديس تم إنشاء التمثيلات في الأصل ولا يمكن تفسيره بدقة من حيث المحركات أو الحالات المادية، وبدلاً من ذلك هناك مصدر غير قابل للاختزال للتمثيلات والذي أتى كاستورياديس ليطلق عليه اسم الأحادية (monad) أو القطب الأحادي للنفسية.

إنّ استدعاء كاستورياديس لمصطلح الأحادية ينبع أولاً وقبل كل شيء من المصطلح اليوناني للوحدة أو العزلة، وقد اشتهر المصطلح بإعادة توظيفه من قبل لايبنيز لوصف النوع البسيط وغير المرئي والوحيد من المكون الميتافيزيقي للواقع، كما جادل لايبنيز بأنّ لا شيء يدخل أو يترك أحاديًا، ومع ذلك فإنّ الأحاديات لديهم تجارب تفاعلية على ما يبدو بسبب التنسيق المحدد مسبقًا الذي خلقه الله (أي أفضل عالم ممكن).

بالنسبة إلى لايبنيز يعكس كل الأحادية حالة أحادية أخرى ويتناغم معها مع البقاء مستقلاً، ومن خلال استدعاء لايبنيز ميتافيزيقيًا احتفظ كاستورياديس بالمصطلح لكنه أعطاه معنى وقيمة مختلفين، الأحادية بالنسبة إلى كاستورياديس ليس النوع الوحيد من المكون الميتافيزيقي ولكنه أيضًا غير واقعي، حيث بالأحرى الأحادية هو ذلك الجانب من النفس غير القادر على قبول أنّه ليس هو النوع الوحيد من المكون الميتافيزيقي.

كاستورياديس والتاريخ الاجتماعي:

بناءًا على ما سبق وعلى هذا النحو لا يبقى أحد في الواقع جوهريًا تمامًا لنفسه، فكل الأحاديات تنكسر حتمًا عندما تواجه النفس غيريًا جذريًا، وبعد الانقسام ورغبة بقايا الوحدة الأحادية في استعادة نفسها إلى حالة العزلة الكاملة التي أصبحت مستحيلة الآن، وهذه الرغبة الأحادية في العزلة لها تأثيران، ومن ناحية أخرى فإنّ رغبة الأحادي في الانغلاق التام للذات تؤدي بالنفسية إلى تجاهل المصادر غير النفسية للوظيفة البشرية، وتبدأ النفس في كره واحتقار الجسد أحيانًا بشكل ضار.

من ناحية أخرى فإنّ رغبة الأحادي في الوحدة ليست مجرد أمر سلبي لأنّها تقود النفس إلى إيجاد طرق فريدة لتمييز نفسها، وغالبًا ما يحدث هذا التفرد من خلال تبني النفس للمعايير والهويات الاجتماعية، حيث إنّ تبني القواعد أو الهويات ليس بالضرورة أمرًا سيئًا، لا سيما بقدر ما يمكن أن يجلب قدرًا معينًا من الاستقرار للنفسية.

كما كانت النقطة الرئيسية لكاستورياديس هي أنّه في حين أنّ القطب الأحادي للنفسية يميل دائمًا نحو الوحدة الراديكالية فإنّ النفس الأوسع -التي لا تمثل الأحادية سوى جانب منها- وهي في الواقع قادرة على التنشئة الاجتماعية واعتماد الهويات المشتركة والعلاقات الإنتاجية الآخرين، ومع ذلك فإنّ القطب الأحادي يحارب دائمًا الانخراط في الأعراف الاجتماعية أو المادية أو الهويات.

في النهاية شعر كاستورياديس بالحاجة إلى حساب الجانب الأحادي للنفسية بسبب تجاربه كمحلل يتفاعل مع المرضى، ويقترح أنّ الأحادية هي فرضية ضرورية يجب أن نفترضها إذا أردنا وصف التاريخ الملحوظ للمريض بعد تجزئه، وما يلي التجزؤ هو مرحلة من الحياة تخلق فيها النفس نفسها فيما يتعلق بحالة اجتماعية تاريخية محددة والظروف الجماعية التي تواجهها، وهذه الظروف الجماعية أو المؤسسات بشكل أساسي تلفيق الفرد من خارج النفس بينما تتبناه النفس في هويتها الخاصة.

لهذا السبب يؤدي عمل كاستورياديس التحليلي النفسي مباشرة إلى فلسفته السياسية، وذلك لأنّه بنفس الطريقة التي يكون فيها الإبداع النفسي في حد ذاته أوسع من التفرد الاجتماعي التاريخي للنفسية ويسبقه كذلك هناك أساس لأي تكوين اجتماعي، وهذه الأرضية غير القابلة للاختزال للإبداع النفسي الفردي يسمي كاستورياديس الجماعة المجهولة.

ينتج عن هذا الإبداع العابر للفرد كتأثيراته التكوينات الخيالية التي تندرج في فئاتنا النموذجية الضيقة من الثقافة أو المجتمع، وتشكل النفس نفسها دائمًا من خلال هذه العروض الاجتماعية المؤسسة، ولكن قوة التأسيس الاجتماعي نفسها هي التي تفسر في المقام الأول هذه الحالة التي تم تأسيسها، ويمكن دائمًا إعادة كتابة المؤسسة بواسطة سلطة المؤسسة، وبالتالي فإنّ المجتمع المستقل حقًا يعترف صراحةً بهذه القوة التأسيسية ويسعى بوضوح للمشاركة فيها.

بهذا المعنى أصرّ كاستورياديس على أنّ طبقات الإبداع المختلفة -على سبيل المثال النفس والجماعة المجهولة- غير قابلة للاختزال لبعضها البعض ومع ذلك فهي تفاعلية بشكل مهم، وهكذا فهم أنّ التحليل النفسي له دور اجتماعي أوسع مما يُعتقد عادة، وعلى وجه الخصوص يمكن أن يساعد النفس على الانهيار بوعي ووضوح مع الرغبة الأحادية في الانغلاق التام على الذات، وقد شعر كاستورياديس أنّ هذه المهمة يمكن أن تساعد في خلق عالم تبدأ فيه النفس الفردية والجماعية في الاعتراف بواجب المشاركة في الأنشطة التداولية للخلق الذاتي المستقل المتميز.

وفي زمن السلبية السياسية في الديمقراطيات الغربية يناقش الفيلسوف كاستورياديس قيمة النظرية الراديكالية للحكم الذاتي، كوسيلة لتصور قدرة الإنسان على إنشاء مؤسسات اجتماعية جديدة بشكل استباقي من قبل لا شيئ (nihlo)، ومع ذلك في تقديم هذه الحجة فإنّها تسعى أيضًا إلى تصحيح عيب رئيسي في نموذج الذاتية الذي تقوم عليه نظرية الاستقلالية هذه، وقد أدت محاولات كاستورياديس لتجاوز فكرة الاغتراب باعتباره معطى ميتافيزيقي، إلى مفهوم متناقض داخليًا للذات قائم على أساس نفسية أحادية الأصل.

من خلال إعادة قراءة نقدية لموقف كاستورياديس من خلال نظرية شيك سلافوج المادية المتعالية للذات، فيتم توضح كيف (إعادة) إدخال الاغتراب في عمل السابق كعنصر تأسيسي للذات المستقلة، والذي يجعل من الممكن التغلب على ما سبق ذكره، والتناقض مع الحفاظ على مفهوم التغيير الاجتماعي الراديكالي المستقل.

نظرية كاستورياديس عن التسامي ليست مبتكرة فقط ضمن التقليد الفرويدي، ولكنها تفتح مجال البحث عن عملية المجتمع للمؤسسة الاجتماعية الراديكالية، فالتسامي هو في الواقع تنشئة اجتماعية، وليس مجرد قسطرة جمالية، ويرتبط نوع معين من التسامي الذي يمكن أن يقال أنّه يعبئ مشروع الاستقلالية بالفلسفة لأنّه متورط في عملية استجواب لا نهاية لها، ولأنّه يتضمن انخراط النفس العملي والشاعري في إنشاء أشكال خيالية جديدة، وتتمثل مهمة الفلسفة بهذا المعنى في النظر إلى الفكر من وجهة نظر غير مفهومة، وهي مهمة جريئة لا يمكن أن تتم في النهاية دون قبول المرء الكامل لمحدودية الفرد.


شارك المقالة: