فلسفة كاستورياديس في تكوين المجتمعات

اقرأ في هذا المقال


يصر الفيلسوف كورنيليوس كاستورياديس على الحاجة إلى مشروع مستقل للتحرر الذاتي، وبالنسبة له حتى الوقت الحاضر كانت المجتمعات غير متجانسة، ولقد بنوا تخيلاتهم التي تنسبها إلى سلطة ما، ولا تدرك المجتمعات غير المتجانسة أن المؤسسات تبني نفسها بنفسها.

مشروع الحكم الذاتي:

بالنسبة إلى كاستورياديس فإنّ نفسية كل إنسان مجزأة حتمًا ولا يمكن أن تظل في حالة أحادية بشكل صارم، وعلاوة على ذلك كأساس لأبراج المعنى الاجتماعية والتاريخية فإنّ إبداع المجموعة المجهولة -أي قوة التأسيس الاجتماعي- غير قابلة للاختزال للإبداع النفسي الفردي.

بالتالي فإنّ مسألة السياسة الحقيقية تنشأ بالضرورة بالنسبة للبشر، لأنّ البشر يجب أن يخلقوا أنفسهم كما هم موجودون بالنسبة للآخرين، وفيما يتعلق بمؤسسات المجتمع (التي غالبًا ما تتوسط في العلاقات مع الآخرين) لذلك فإنّ مسألة العمل السياسي الحقيقي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمسألة المؤسسات التي سنؤسسها ونستوعبها ونعتمد عليها في إبداعاتنا، ومن ثم يجب أن ننخرط في مداولات واضحة حول ما هو جيد للبشر وحول المؤسسات التي تساعدنا في تحقيق الخير، وتفصل هذه المداولات الواضحة السياسة الحقيقية عن الديماغوجية أو السياسة الساخرة.

الأهم من ذلك أنّ المداولات الحقيقية لا تتعلق فقط بوسائل تحقيق هدف نفترض أننا نعرفه بالفعل (كما افترض أرسطو في الأخلاق أنّ هدفنا من السعادة أمر مفروغ منه وأننا نحتاج فقط للتداول حول وسائل السعادة)، وبدلاً من ذلك يجب أن نتداول بشأن الغايات نفسها وكذلك الوسائل، وعلى هذا النحو لا يمكن للوجود السياسي أن يصل أبدًا إلى نتيجة كاملة ونهائية.

نظرًا لعدم تقديم أي نموذج محدد للعمل إلينا (على سبيل المثال لا يمكن وضع السياسة على غرار ما هو طبيعي أو بيئي وفقًا للتطور وما إلى ذلك)، ولا يمكن للسياسة الحقيقية أن تفترض أنّ أي حالة معينة أو حالة من الحياة تحدد القوانين، كما يجب أن تحدد لنفسها والممارسات التي يجب أن تدعمها أو تعاقب عليها، وبدلاً من ذلك بالنسبة إلى كاستورياديس السياسة الحقيقية هي طريقة حياة يعطي فيها البشر القوانين لأنفسهم، حيث يعيدون باستمرار المشاركة في المداولات حول ما هو جيد.

باختصار تتطابق السياسة الحقيقية مع السؤال، وقدرة الأفراد والمجتمع على طرح السؤال وهو: ما هو المجتمع الصالح؟ كما إنّ المجتمعات والأفراد الذين يستطيعون طرح هذا السؤال بصدق قادرون على الاستقلال الذاتي، وتجاوز إغلاق التقاليد والتكيف الاجتماعي الذي ينشأون فيه، وهذه القدرة على الاستقلالية لا تعتمد فقط على الأفراد والمجتمع الذين يضعون بالفعل قيودًا وقوانين لأنفسهم، ولكن أيضًا على تلك المؤسسات التي يعتمد عليها الأفراد والمجتمع عند إنشاء تلك القوانين.

طبقات المجتمع:

لم يخجل كاستورياديس من اقتراح بعض الخصائص المؤسسية المحددة التي تتبناها المجتمعات المستقلة، بينما حذر من أنّه لا يمكن أن يكون هناك قرار مسبق أو نهائي بشأن ما يجب أن يكون عليه المجتمع المستقل، فقد اقترح في (Done and To Be Done) ترتيبًا مؤسسيًا كلاسيكيًا ثلاثي الشعب لطبقات المجتمع، وهذه الطبقات هي:

1- (ekklésia): الجمهور أو العام.

2- (oikos): الشخصي أو الخاص.

3- (agora): العام أو الخاص.

طبقة (ekklésia):

عند تعريف هذه المصطلحات أصر كاستورياديس على أنّ الشرط الضروري الأول لمجتمع مستقل هو جعل المجال الجمهور أو العام مفتوحًا أو (ekklésia)، وتتمثل المهمة في جعل المؤسسة الذاتية من قبل الأفراد والمجتمع واضحة من خلال الاعتبار العام للأعمال والمشاريع التي تلزم الجماعية والفرد، ولا تعتبر (ekklésia) مجالًا للإدارة البيروقراطية للأفراد من قبل المهندسين المعماريين الاجتماعيين، حيث على العكس تمامًا فهو يستلزم إنشاء مؤسسات لإنتاج المعرفة العامة وسن القوانين، وبالتالي إتاحة مساحة فكرية للأفراد لمعرفة القوانين والتشكيك فيها بطريقة مستنيرة.

ومع ذلك لا يمكن ترك مثل هذه الاعتبارات التي تؤثر على الأفراد للمجال شخصي أو الخاص أو المجال العام أو الخاص، حيث يجب أن تقوم بها الجماعة معًا في الأماكن العامة، ويبدو أنّه لا يوجد شرط بأن تشغل (ekklésia) ما نطلق عليه عادة مكانًا ماديًا، وبدلاً من ذلك فإنّ موقع معرفة القانون والتداول بشأنه والتشكيك فيه هو أي مساحة وملك للجميع (ta koina)، والمهم هو أنّ (ekklésia) تُشرك الجماعية في نقاش عام حول أهداف ووسائل المجتمع والأفراد.

طبقة (oikos):

ثانيًا جادل كاستورياديس بأنّ المجتمع المستقل سيجعل المجال الشخصي أو الخاص أو (oikos) غير قابل للانتهاك ومستقل عن المجالات الأخرى، فالأفراد والعائلات والمنازل يخلقون أنفسهم مع المؤسسات، وهذا يعني أنّ الحياة الخاصة كما تخلق نفسها تعتمد على نسيج مؤسس للمجتمع، وهو نسيج يجب أن يكون استمراره موضوعًا للتداول في (ekklésia).

ويشمل هذا النسيج مؤسسات التعليم والقانون الجنائي الأساسي وظروف أخرى على مستوى المجتمع، فالشيوعية أو الاشتراكية البيروقراطية بقدر ما تدمر الشخصية الفردية والحياة الخاصة، فإنّه يجب إلغاؤها من خلال جهود (ekklésia) لدعم استقلال وتميز المجال الشخصي أو الخاص.

طبقة (agora):

ثالثًا دافع كاستورياديس عن استقلال المجال العام / الخاص المختلط أي أغورا، حيث إنّ دفاعه عن المصطلح الذي استخدمه الإغريق للإشارة إلى أسواقهم ليس له علاقة بأي دفاع عن ما يسمى بالمشروع الحر (أي الحرية السلبية لاستغلال العمال)، وبدلاً من ذلك فإنّ الأغورا هي المكان الذي يمكن للأفراد (وليس مجموعة معينة من الأفراد كما كان الحال في أثينا، حيث شارك المواطنون الذكور وحدهم) تجميع أنفسهم فيما يتعلق بالآخرين لأغراض لا تتعلق صراحةً بالمسائل المتعلقة بالمجال الجمهور أو العام.

إنّ استقلال أغورا كمجال مختلط من شأنه أن يلغي إمكانية التجميع القسري للبضائع أو الحاجة إلى إلغاء أشكال النقود والتي لا تزال مفيدة في المجال الزراعي، حيث يوفر المجال الزراعي نوعًا من الحاجز بين طغيان مجموعة المصالح العامة كليًا أو الخاصة بالكامل، وبالتالي يدعم المؤسسة المستمرة للحكم الذاتي ككل، وبالنسبة إلى كاستورياديس يجب التعامل مع كل طبقة من الطبقات المؤسسية الثلاث باعتبارها مجالًا مناسبًا خاصًا بها ولا ينبغي أن ينهاروا في مجال واحد فكتب: “لا يمكن أن يتألف المجتمع المستقل إلّا من أفراد مستقلين”، والحفاظ على كل طبقة أمر حيوي.

ومع ذلك فمن ناحية فإنّ المجتمعات الحكومية والبيروقراطية في القرن العشرين على الرغم من نواياها في إنشاء مجال عام حقيقي، فقد انهارت باستمرار الشمولية المحتملة للمجال الجمهور أو العام إلى طبقة الشخصية أو الخاصة بشكل ضخم وشامل أي في مجتمع بيروقراطي متلاعب.

من ناحية أخرى كانت الديمقراطيات الليبرالية الغربية أكثر ملاءمة للمجتمعات الرأسمالية الشمولية والاستبدادية التي كانت موجودة في شكل أكثر تجزئة إلى حد ما وأقل شمولية من نظيراتها الدولتية، وهم أيضا يميلون إلى انهيار الجمهور أو العام في الشركات الرأسمالية الخاصة والبيروقراطية، وبالتالي فإنّهم يولدون أشخاصًا لا يعرفون القانون وبالتالي لا يمكنهم التشكيك فيه أو وضع قوانين جديدة بشكل فعال، وبالتالي فإنّ الاستقلالية -بينما تكون دائمًا ممكنة بالنسبة لنا من حيث المبدأ- مع ذلك ممنوعة فعليًا في معظم أنحاء العالم حتى يومنا هذا.


شارك المقالة: