فلسفة كودوورث في الإرادة الحرة والوعي

اقرأ في هذا المقال


يتحدى الفيلسوف الإنجليزي رالف كودوورث التصنيف ضمن الفئات العرفية لتاريخ الفلسفة، وفي الوقت الذي أعلن فيه الفلاسفة السائدون عن حداثتهم من خلال الانفصال عن الماضي، كان كودوورث شخصية تواصل متجذرة في الفلسفة القديمة ومع ذلك فهي مواكبة للفلسفة والعلوم المعاصرة، وتشمل العناصر المميزة لفلسفته نظريته عن الوعي واللاوعي وتصوره للإرادة الحرة كقوة لتقرير المصير وفرضيته السببية لما أسماه القوة البلاستيكية للطبيعة.

الإرادة حرة:

تعكس فلسفة كودوورث الأخلاقية مخاوفه بشأن الآثار الأخلاقية للطوعية اللاهوتية ومذهب حرية اللامبالاة وأخلاق القيادة توماس هوبز وعلم نفس الكلية، كما إنّه ينكر التقاليد الأخلاقية وينكر أنّ مبادئ الأخلاق يمكن استنتاجها من المعرفة الحسية، بحجة أنّ المبادئ الأخلاقية هي تعديلات للعقل وبالتالي أشياء أكثر واقعية وجوهرية من تعديلات مجرد مادة لا معنى لها، حيث يؤسس كودوورث الطبيعة الأبدية غير المتغيرة للمبادئ الأخلاقية في الخير والعدالة في الله، وذلك بصفته كائنًا كاملًا تمامًا فإنّ الله هو فكرة أو جوهر الخير الذي يتجلى صلاحه الأساسي في كل الأشياء.

مثل سقراط في يوثيفرو (Euthyphro) لدى أفلاطون يجادل بأنّ الأشياء ليست جيدة لأنّ الله يريدها ولكن الله يريدها لأنّها جيدة، ولذا فإنّ الخير أو العدل أو البر هو جوهر الشيء نفسه، فالمبادئ الأخلاقية يمكن تمييزها عن طريق العقل ومتاحة للجميع بحكم مشاركة العقل في الله، ومع ذلك فهو يدرك أنّ مجرد معرفة الصالح لا يكفي لضمان السلوك الفاضل ويجب أن يؤخذ في الاعتبار قابلية الخطأ الأخلاقي.

يجادل كودوورث أيضًا بأنّ الدافع وراءنا هو الرغبة في الخير، فهو ما يتحرك فينا أولاً وهو الربيع ومبدأ كل عمل تداولي، ولا يمكن أن يكون سوى رغبة ثابتة ومضطربة وغير منقطعة أو حب الخير مثل السعادة، ونحن ندرك الخير باستشعاره أنّه شيء يلامسنا ويُشعر به فينا، ومن الأهمية بمكان في فلسفته الأخلاقية الاهتمام الذي يوليه لعلم النفس الأخلاقي ولا سيما نظريته عن الاستقلالية الأخلاقية التي ترتكز على مفهومه للإرادة الحرة.

تم تضمين المناقشة الرئيسية لمفهوم كودوورث للإرادة الحرة في عمله الفلسفي (Of Freewill) والمخطوطات غير المنشورة حول الحرية والضرورة، ويتمثل أحد الاهتمامات المركزية لكودوورث في أنّه لكي نتصرف بشكل أخلاقي يجب أن نكون مسؤولين عن أفعالنا، ولن يكون هذا ممكنًا إذا لم نكن أحرارًا في التصرف لأننا لسنا مسؤولين عن أفعال تحددها عوامل خارجة عن إرادتنا، مثل المراسيم الإلهية أو إملاءات الطغاة أو الظروف المادية مثل المرض أو السجن.

بالنسبة لكودوورث فإنّ الشرط الأساسي للمساءلة الأخلاقية وبالتالي للسلوك الفاضل وهو حرية الاختيار بين مسار عمل واحد دون الآخر، وهذا يعني على الأقل عدم التقيد بالعوائق الخارجية التي تحول دون اتباع مسار عمل معين، ومع ذلك تتطلب حرية العمل أكثر من عدم وجود قيود ومجرد معرفة الخير لا يضمن السعي وراء الفضيلة.

كما يتطلب التصرف بذكاء أن نكون قادرين على متابعة مسار العمل الذي نختار اتباعه، ووفقًا لذلك أعاد كودوورث تصور فكرة حرية الإرادة كقوة لتقرير المصير، وهذه القوة الذاتية هي مبدأ تحكم الروح الذي يتبنى من أجله مصطلحات يونانية مثل (autexousion) أو (eph hemin) أو (hegemonikon)، وهذا المبدأ الحاكم هو القوة الذاتية بمعنى أنّه مبدأ العمل الداخلي للروح الذي يحكم كل مركب الجسد والروح (الإنسان كله)، وبمعنى أنّه الفرد البشري من يحدد كيف يتم ممارستها.

يعتبر مفهوم كودوورث للإرادة الحرة عنصرًا أساسيًا في علم النفس الأخلاقي الجديد الذي تمت الإشارة إليه في مخطوطاته غير المنشورة، وبالاستغناء عن الملكات الدراسية التقليدية للعقل يقترح مفهومًا موحدًا للروح تتضمن عملياته تفاعلًا معقدًا بين القوى الإيجابية والسلبية المرتبطة به، كما يتضمن هذا التكتل من القوى أو الطاقات كلاً من القوى العقلانية (الفكر والتداول والعقل العملي) جنبًا إلى جنب مع الإدراك الحسي والرغبات والشهوات.

ومع ذلك نظرًا للتفاعل المعقد بين القوى الإيجابية والسلبية فإنّ نطاق الإرادة الحرة لتقرير المصير مقيد بشكل ملحوظ، ولذلك من الخطأ اعتبار كودوورث ليبراليًا، والجمع بين كل من العقل والعاطفة في حساب كودوورث للفعل الأخلاقي يعني أنّه لا يمكن تصنيفه على أنّه عقلاني أخلاقي بشكل غير محتمل.

عملية الوعي:

بشكل حاسم تتطلب ممارسة الإرادة الحرة أن يكون لدى الهيمنة إدراك قوى الروح المختلفة وإدراك عملياتها الخاصة، من حيث فهم جميع القوى والطاقات والقدرات الأخرى لروحنا وبمعنى آخر الوعي، حيث يتصور كودوورث الوعي على أنّه حالة وعي داخلي أو إحساس داخلي تكون فيه الروح، فهو حاضر مع نفسه ومنتبهًا إلى أفعاله أو معادٍ لها، لإدراك نفسه وهو يفعل أو يعاني ويؤتي ثماره أو يستمتع به.

يتفق كودوورث مع الفيلسوف رينيه ديكارت على أنّه عندما نعتقد أننا ندرك أفكارنا، ومثل ديكارت فإنّه يفسر التأمل على نطاق واسع ليشمل جميع عمليات الحس والخيال والفكر والإرادة، وعلى عكس ديكارت فهو لا يقبل أنّ الروح أو العقل دائمًا واعي وذلك كما لوحظ بالفعل، ويجادل كودوورث بأنّ العديد من أنشطة الروح على سبيل المثال تلك التي تؤديها الطبيعة البلاستيكية يتم إجراؤها دون وعي، وعلاوة على ذلك حتى عندما تكون واعية فإنّ الروح لا تمتلك دائمًا وعيًا واضحًا ومتميزًا لأفكارها.

بالنسبة لكودوورث هناك درجات مختلفة من الوعي وتتناسب مع الأنواع المختلفة من النشاط العقلي، فمن الإدراك الواضح للوعي الصريح المتضمن في الفكر إلى الإدراك المخدر والناعس للحواس، إلى حالات شبه وعي (نصف نائم ونصف مستيقظ)، أو عندما نفعل أشياء دون تركيز (عدم الحضور أو بنصف تفكير)، وتدين نظرية كودوورث للوعي في الواقع إلى الفيلسوف أفلوطين أكثر من ديكارت، حيث إنّ أفلوطين هو مصدر وجهة نظره للوعي كإدراك داخلي أو إحساس داخلي الذي من أجله يتبنى مصطلح أفلوطين (synaesthesis) أو الحس المتزامن كما يترجمه.

الحس المتزامن هو أعلى شكل من أشكال الوعي والذي يتضمن ما يسميه كودوورث الازدواجية أو المضاعفة، وهو مصطلح مشتق من مفهومه عن الروح على أنّها ازدواجية، أي أنّ المناطق العليا والسفلى تتوافق على التوالي مع فكريها ومعقولها أو قوى بلاستيكية، والحس المتزامن هو فعل التأمل الذاتي حيث يتغاضى المهيمن عن الروح بأكملها كما هي من خلال ثني القوى العليا للروح على القاع، والروح التي تضاعفت على نفسها بهذه الطريقة هي الروح التي تدرك نفسها مع كل همومها واهتماماتها وتمارس المداولات وتذكر الذات والاهتمام.

في الواقع يرى كودوورث أنّ الكائنات الحرة فقط هي التي تمتلك هذا النوع من الوعي، لأنّ المهيمن هو فقط القادر على توجيه الانتباه وإلقاء نظرة شاملة على قدرات الروح، ويصف كودوورث بشكل مناسب القوة المهيمنة بأنّها حارس الروح، وإنّ وعي الهيمنة لعملياتها الخاصة التي تجعلها حاضرة مع نفسها وقادرة على إدراك نفسها قد يُطلق عليها بشكل معقول الوعي الذاتي؛ لأنّ هدف إدراكها هو القوى التي تشكلها على أنّها الشخص الكامل، وعلى النقيض من ذلك فإنّ قوى وقدرات الروح الدنيا هي طاقات بسيطة مع مستوى أدنى من الوعي بالمقابل.


شارك المقالة: