فلسفة كودوورث وجوهر العقل

اقرأ في هذا المقال


كان رالف كودوورث فيلسوفًا وعالمًا لاهوتيًا إنجليزيًا، وممثلًا لحركة القرن السابع عشر المعروفة باسم أفلاطونيون في كامبريدج، حيث كان هؤلاء أول فلاسفة إنجليز ينشرون في المقام الأول بلغتهم الأم ويستخدمون أفلاطون كمؤثر أساسي.

الميتافيزيقيا – الأفلاطونية:

إنّ الهيكل التصنيفي للعمل المنشور لكودوورث النظام الفكري الحقيقي للكون (The True Intellectual System of the Universe-TISU)، هو من النوع الذي يمكن اعتباره تاريخًا للفلسفة أو خلاصة وافية لحجج فلاسفة العصور القديمة، وهذا أحد الأسباب التي دفعت الفيلسوف جون لوك إلى التوصية به.

لكن تفسير الكتاب على أنّه مجرد خلاصة وافية لحجج الفلاسفة الآخرين هو إغفال أساسيات ميتافيزيقا كودوورث والفلسفة الطبيعية المضمنة في صفحاته المشروحة بشدة، والتي تكشف الجوهر الأفلاطوني لفلسفته، ومن الأمور المركزية في ميتافيزيقيا كودوورث هو المبدأ الأفلاطوني القائل بأنّ العقل: “هو الأول في ترتيب الطبيعة”، وهكذا يسبق العقل العالم ويقف في علاقة سببية معه من حيث أنّ المعرفة أقدم من كل الأشياء المعقولة، والعقل الأقدم في العالم ومهندسه.

العقل المعني هو عقل الله الذي يحتوي على معقداته المباشرة داخل ذاته باعتباره النموذج أو المنصة التي على أساسها صنع هذا العالم المعقول، فالمفكر يسبق المادي كشكل للنسخ والنموذج الأصلي إلى النوع الخارجي، وبالتالي فإنّ العالم أو الطبيعة المحسوسة هي طابع أو توقيع حي للحكمة الإلهية، والعلاقة الوجودية للبنى الفكرية والمادية نظرته المزدوجة لكل الوجود كتسلسل هرمي تنازلي للكيانات من الملائكة والبشر إلى الحيوانات والنباتات والطبيعة البلاستيكية.

المبادئ العملية التي تميز المواد غير المادية عن المواد هي النشاط والسلبية، فالمبدأ النشط هو الطاقة أو (energeia) وهو مبدأ الحياة، وهذا مبدأ داخلي أو نشاط ذاتي قادر على بدء الحركة أو التفكير، فالعقول والأرواح والقوى العقلية كلها أشكال من الطاقة مثلها مثل الطبيعة البلاستيكية، وجميع الطاقات عقلانية إلى حد ما ولكن الطاقات المختلفة لها قوى مختلفة مثل قوة المادة المتحركة.

وقد تكون الحياة إما واعية أو غير واعية، فالحياة أو النشاط الذاتي الداخلي يجب تقسيمها إلى مثل هذه الأفعال بوعي وتزامن صريحين أو كما هو بدونها، وعلاوة على ذلك فإنّ الطاقة هي بالضرورة غير مادية وغير ممتدة، لأنّ الجسم باعتباره امتدادًا خاملًا فهو بحكم تعريفه غير قادر على إنشاء الحركة أو الحياة أو الفكر.

إنّ مفهوم كودوورث عن الجسد باعتباره امتدادًا سلبيًا لا يختلف إلّا عن طريق الحجم والشكل والموضع والحركة، ومستمد إلى حد كبير من الفيزياء الميكانيكية الجديدة من الفيلسوف رينيه ديكارت، وكما يعزو كودوورث الصلابة أو المقاومة للجسم بتعديل التعريف إلى التمديد المقاوم أو المضاد، وتكمن جاذبية هذه الفلسفة الجديدة وفقًا لكودوورث في وضوحها وبساطتها التفسيرية وحقيقة أنّها تفترض مسبقًا وجود وكالة نشطة غير مادية، لأنّ الجسم لا يستطيع بدء الحركة.

لقد اعتبره كودوورث بمثابة إحياء لنظرية المادة الذرية القديمة التي اعتقد أنّها مشتقة في النهاية من فيثاغورس وموسى، وكانت عوامل الجذب الأخرى للفيزياء الجديدة لكودوورث هي الاستغناء عما اعتبره الفوضى غير المنطقية للأشكال والصفات المدرسية وكان متسقًا مع الظواهر المرصودة للكون المادي.

طبيعة البلاستيك:

من السمات المميزة لنظام كودوورث فرضيته عن الطبيعة البلاستيكية، والتي يفترضها ككيان سببي وسيط بين الله والعالم الطبيعي، ويرد هذا في قسم طويل من عمله الفلسفي النظام الفكري الحقيقي للكون (TISU) بعنوان الاستطراد فيما يتعلق بحياة الطبيعة البلاستيكية، حيث صاغ كودوورث فرضيته في ضوء أوجه القصور كما رآها في الفلسفة الميكانيكية، والتي اعتقد أنّها لا تستطيع تفسير الحركة والتغيير أو اتحاد الروح والجسد أو الحياة نفسها أو نظام الطبيعة وتناغمها.

كما أنّه صاغها وذلك وفقًا لوجهة نظره ضد وجهة النظر الديكارتية القائلة بأنّ جوهر الروح هو التأمل، وذلك لإنّ كودوورث يعترض على أنّ عمليات الروح تشمل عمليات الحياة التي لا يمكن تفسيرها من حيث التأمل أو الإشارة إلى التفسير المادي، ويجادل كودوورث بأنّ معادلة ديكارت للتأمل مع الوعي سخيفة لأننا في مثل هذه الرؤية سنكون واعين بشكل دائم حتى عندما نكون نائمين.

وفقًا لذلك يفترض كودوورث الطبيعة البلاستيكية كأداة الله للحفاظ على العمليات الدنيوية للكون المادي بطريقة منظمة وتنظيم عمليات الحياة، من أجل الحفاظ على مفهوم العالم الطبيعي كنظام متناغم وموحد وهادف يعكس صلاح وحكمة المهندس المعماري، والطبيعة البلاستيكية هي نوع من القوة أو الطاقة التي تغمر الأشياء المادية وتجمع بين السببية الفعالة والنهائية والشكلية، بينما تسمح في نفس الوقت بالصدفة واحتمال الخطأ.

نظرًا لعيوبها البلاستيكية فإنّ الطبيعة البلاستيكية عرضة للخطأ أو الإخفاقات، وذلك على الرغم من أنّها نسخة من العقل الإلهي، إلّا أنّها ليست سوى عيب خافت ومجرد استياء من الفكر وتقليد خافت وغامض للعقل والفهم، وتعمل دون وعي بإجراءاتها، فالاختلاف الرئيسي بين العقل البشري والطبيعة البلاستيكية هو أنّ الطبيعة البلاستيكية تعمل دون وعي، وبهذه الطريقة حاول كودوورث الإبحار في مسار بين العرضية التي تتطلب تدخلاً مباشرًا من الله في تفاصيل العمليات اليومية للطبيعة والحتمية والمصادفة.

يستدعي كودوورث فلاسفة آخرين لدعم فرضيته بما في ذلك أرسطو الذي فسر مفهومه عن الطبيعة على أنّها فن وعلى أنّه نسخة منه، ولكن أهم دين له هو لأفلوطين خاصة بالنسبة لفكرته عن الطبيعة الحية اللاواعية وتصوره للتعاطف كنوع من عامل الترابط في الكون، فلم تكن فكرة الفاعلية السببية الوسيطة في الطبيعة غير مسبوقة في القرن السابع عشر لا سيما في الفكر الطبي، وهناك صلات قوية بين الطبيعة البلاستيكية ومفهوم هنري مور لروح الطبيعة، ومع ذلك فإنّ الاختلاف الرئيسي عن مور هو أنّ الطبيعة البلاستيكية ليست ممتدة لأنّ امتداد كودوورث هو خاصية للجسم وليس كيانات غير مادية.

نظرية المعرفة:

بالنسبة لكودوورث العقل نشط ومؤلف من تأملاته الخاصة، فالعقل ليس المتلقي السلبي للمعرفة من خارج نفسه ولكنه يشارك بنشاط في الإدراك، ويفترض نوعين من الإدراك وهما: الإدراك الحسي والفكر، فيستقبل الإدراك الحسي الانطباعات الجسدية بشكل سلبي ولا ينتج عنه سوى نوع مشوش من المعرفة، بينما الفكر هو طاقة أعلى للجزء عقلي من الروح وهو مستقل عن الجسد وينتج المعرفة الحقيقية، وبصفته نموذجًا لحكمة الله فإنّ العقل البشري هو عالم فكري مصغر.

هذه الأفكار والصور ليست أفكارًا فعلية لكل الأشياء ولكنها محتواة افتراضيًا ومحتملًا بالعقل، والذي منه قادر على تأطير أفكار أو مفاهيم منطقية داخل نفسه لأي كيان أو قابلية عقلانية، وبالنسبة لكودوورث فإنّ أفكار الأشياء موجودة مسبقًا أشياءها، وهذه الأفكار الموجودة مسبقًا للأشياء هي توقعات، فالمعرفة تنحدر من العقل إلى الشيء، ومن المسلمات إلى التفاصيل وليس العكس كما كانت تنظر إلى الأسفل.

على الرغم من أنّ المعرفة يمكن أن يولدها العقل دون الرجوع إلى العالم الخارجي فإنّ الإدراك الحسي له دور في الإدراك، ولكنها ثانوية فقط لأنّه بدون مدخلات العقل وتكون الإدراكات الحسية غير مفهومة، وبدلاً من ذلك لأنّ شكل الكتابة على الصفحة لا معنى له إلّا لشخص يعرف كيف يقرأ، ويشرح كودوورث قدرتنا على فهم العالم الخارجي عن طريق المراسلات بين العقل والطبيعة لأنّ كلاهما يحمل بصمة (نوع) من حكمة الله.

إنّ طابع الفكر هذا الذي يتجلى في نظام وعلاقات الأجزاء المكونة له هو الذي يجعل العالم الخارجي مفهومًا، ولذا فإنّ الإدراك هو فعل تمييز شبيه بالعملية التي نتعرف من خلالها على صورة صديق لأنّ لدينا فكرة مسبقة عما يبدو عليه، وبالتالي فإنّ التذكر والتفكير هما أيضًا عنصران في عملية الإدراك، ففي فهم العالم الخارجي لا يركز العقل على المظهر الخارجي للأشياء ولكن على الثوابت العلائقية التي تكشف عن جوهرها الثابت.


شارك المقالة: