اقرأ في هذا المقال
لم يستغرق الفيلسوفجورج إدوارد مور وقتًا طويلاً ليدرك أنّ الموقف الواقعي الذي تقدم به في عمله الفلسفي (تفنيد المثالية) كان غير قابل للاستمرار.
مفهوم المعنى في فلسفة مور:
كان عليه أن يكون قادرًا على استيعاب المظاهر الزائفة بطريقة ما، ولكن الاستراتيجية التي تبناها مور للتعامل مع هذا ظلت صحيحة مع الأطروحة الأساسية لتفنيد المثالية التي تنص على أنّه: “ينبغي للمرء أن يفسر ظهور الأشياء من حيث خصائص الأشياء الأساسية للتجربة، وليس صفات التجارب نفسها”، ولتوضيح هذا الموقف قدم مور مصطلح المعنى لوصف هذه الأشياء الأساسية للتجربة:
“لكن الآن ماذا حدث لكل منا عندما رأينا ذلك الظرف؟ سأبدأ بوصف جزء مما حدث لي، حيث رأيت رقعة من لون مائل للبياض ولها شكل معين، وهذه الأشياء أي هذه البقعة ذات اللون الأبيض وحجمها وشكلها رأيته بالفعل، وأقترح تسمية هذه الأشياء اللون والحجم والشكل باسم بيانات المعنى”.
يشير مور هنا إلى أنّ اللون والشكل والحجم هي بيانات معنية مميزة، ولكنه سرعان ما قام بمراجعة المصطلحات الخاصة به، بحيث يتم اعتبارها خصائص للحس البصري الذي رآه بالفعل أو فهمه بشكل مباشر كما يقول عادةً.
العلاقة بين البيانات الحسية والأشياء المادية:
بمجرد إدخال مفهوم المعنى بهذه الطريقة من السهل أن نرى أنّه يمكن التعامل مع المظاهر الخاطئة من خلال التمييز بين خصائص البيانات الحسية التي ندركها وخصائص الأشياء المادية التي تؤدي إلى هذه بيانات المعنى. ولكن ما هي العلاقة بين البيانات الحسية والأشياء المادية؟
اعتبر مور أنّ هناك ثلاثة بدائل ومرشحين جديين يجب أخذهم في الاعتبار كالتالي:
1- موقف واقعي غير مباشر: ووفقًا له تكون بيانات الإحساس غير مادية ولكنها تنتج بطريقة ما عن طريق التفاعلات بين الأشياء المادية وحواس الإنسان.
2- الموقف الظاهراتي: والذي وفقًا لمفهومنا للأشياء المادية هو مجرد مفهوم يعبر عن التوحيد المرصود والمتوقع بين بيانات المعنى التي ندركها.
3- موقف واقعي مباشر: حيث تكون بموجبه بيانات الحس جزءًا من أشياء مادية، بحيث تكون على سبيل المثال بيانات الحس البصري أجزاء مرئية من أسطح الأشياء المادية.
فالموقف الواقعي غير المباشر هو الذي انجذب إليه في البداية، ولكنه استطاع أن يرى أنّه يترك معتقدات الإنسان حول العالم المادي عرضة للشكوك المتشككة، لأنّه يشير إلى أنّ الملاحظات التي تشكل دليلاً على هذه المعتقدات تتعلق فقط بخصائص البيانات الحسية غير المادية، ولا توجد طريقة واضحة للمرء للحصول على مزيد من الأدلة لدعم فرضية حول خصائص العالم المادي وعلاقته ببيانات إحساس المرء.
تشبه هذه الحجة لحد ما بحجة نقد بيركلي لجون لوك، ولذلك فكر مور بعناية في البديل الظاهراتي لبيركلي، وكان رد مور الأولي على هذا الموقف هو أنّ المفهوم الضمني للعالم المادي كان مجرد بيكويكي (pickwickian وصف مور يعني أنّه مثل السيد بيكويك (Pickwick) في أوراق بيكويك لديكنز، لا سيما في كونه مرحًا أو ممتلئ الجسم أو كريمًا) بحيث لا يمكن تصديقه.
قد يبدو هذا بديهيًا للغاية مثل اعتراض الدكتور جونسون الشهير على بيركلي، ولكن مور قد يرى أيضًا أنّ هناك اعتراضات جوهرية على الموقف الظاهراتي مثل حقيقة أنّ طرق المرء العادية لتحديد وتوقع التماثلات المهمة بين بيانات إحساس المرء تعتمد على معتقداته حول موقعه في الفضاء المادي وحالة أجهزة الحواس الفيزيائية التي لا يتوفر أي منها للظواهر الثابتة.
حتى الآن ديالكتيك (بمعنى جدلية) مور مألوف ولكن ما هو غير مألوف هو موقفه الواقعي المباشر والذي وفقًا لبيانات المعنى مادية، حيث يتجنب هذا الموقف المشكلات التي تمت مواجهتها حتى الآن، ولكن من أجل استيعاب المظاهر الخاطئة يتعين على مور السماح لبيانات المعنى التي قد تفتقر إلى الخصائص التي يفهم المرء أنّه يمتلكها.
قد يكون هناك شعور بأنّه طالما أنّ بيانات المعنى هي أشياء على الإطلاق فهذا أمر لا مفر منه، ولكن مور يحتاج الآن إلى تقديم وصف للخصائص الظاهرة لبيانات المعنى وليس من الواضح كيف يمكنه القيام بذلك دون الرجوع إلى الدافع الأولي لنظرية المعنى من خلال تفسير هذه الخصائص الظاهرة على أنّها خصائص لتجارب الإنسان.
لكن ما يدفع مور في الواقع ضد هذا الموقف الواقعي المباشر هو الصعوبة التي يعتقد أنّها تؤدي إليها فيما يتعلق بمعالجة الهلوسة، حيث يرى مور أنّه في مثل هذه الحالات فإنّ أي بيانات حساسة ندركها ليست جزءًا من كائن مادي، ولذلك لا يمكن للواقعية المباشرة أن تنطبق عليهم.
ومع ذلك لا يوجد سبب للاعتقاد بأنّهم مختلفون جوهريًا عن البيانات الحسية التي نفهمها في التجربة العادية، وقد تكون هذه النقطة الأخيرة محل نزاع حيث وفي وقت ما يعتبر مور نفسه إمكانية التمييز بين البيانات الحسية الذاتية و البيانات الحسية الموضوعية، ولكن بمجرد أن يقدم المرء بيانات المعنى في المقام الأول ككائنات أولية للتجربة فلن يكون من السهل التمييز هنا دون افتراض المزيد عن التجربة أكثر مما أراد مور التنازل عنه بأي حال من الأحوال.
فلسفة مور في مفهوم الإدراك:
كتب مور عن الإدراك على نطاق واسع أكثر من أي موضوع آخر، وفي هذه الكتابات يتنقل بين البدائل الثلاثة وهي الموقف الواقعي غير المباشر والموقف الظاهراتي والموقف الواقعي المباشر، دون التوصل إلى أي نتيجة قاطعة. فمن الخارج يبدو واضحًا أنّ ما دفعه إلى الضلال هو فرضية المعنى نفسها، ويمكن اعتبار انعكاسات مور على الإدراك بمثابة اختزال موسع لهذه الفرضية، وفي نهاية حياته المهنية فقط واجه في نظرية الظرف عند دوكاس (Ducasse) بديلاً جادًا لفرضية المعنى.
لكن نظرية الظرف لا توفر طريقة سهلة لتجنب الصعوبات التي واجهها مور، أي فقد اعترض مور بحق على دوكاس بأنّه ليس من الواضح على الإطلاق كيف يمكن تفسير بنية المجال الحسي في مصطلحات الظرف، ومع ذلك كانت هناك بدائل أخرى حيث على وجه الخصوص منذ بداية القرن العشرين قدمت الحركة الظاهراتية سردًا للإدراك بناءً على الاعتراف بقصدها المتأصل الذي يتجنب بعض عيوب نظرية المعنى.
ولكن من المؤسف أنّ مور لم يتعامل مع هذا الموقف ولكن هذا الانفصال كان سمة مميزة للعلاقة في ذلك الوقت بين التقاليد التحليلية والظواهر.