فلسفة مور وتفسير أنطولوجيا الإدراك

اقرأ في هذا المقال


مع محاولة جورج إدوارد مور الفاشلة للحفاظ على نسخة واقعية مباشرة من نظرية البيانات الحسية وصل مور إلى نهاية حبله في محاولته التوصل إلى أنطولوجيا الواقعية المعرفية للإدراك، ولكن هذا لم يؤد إلى تخليه عن الواقعية المعرفية أو الميتافيزيقية بشكل عام.

فلسفة مور ومناهضة الواقعية:

كان من الممكن أن يكون نجاح قيام مور بالتخلي عن الواقعية المعرفية احتمالًا حقيقيًا، لأنّ التخلي عن الواقعية المباشرة يعني الاعتراف بأنّه ليس لدينا دليل مباشر على وجود العالم المنطقي، وفي حين أنّ الإصدارات غير المباشرة أو التمثيلية للواقعية ممكنة، فمن الطبيعي مع ذلك أن نرى التمثيلية على أنّها تفتح الباب لنوع من مناهضة الواقعية (في أشكال مثل المثالية والظاهرية وما إلى ذلك) التي عمل مور من أجلها الإطاحة.

وبدلاً من الانزلاق على المنحدر الزلق المحتمل من التمثيلية إلى معاداة الواقعية فقد حفر مور في أعقابه وأصر على أنّنا مبررون في قبول وجهة النظر المنطقية للعالم على الرغم من حقيقة أننا لا نستطيع أن نوضح بشكل كافٍ وجوديًا كيف يُعطى العالم لنا، وكما قال مور نفسه: “أعتقد أنّنا جميعًا في وضع غريب أنّنا نعرف أشياء كثيرة، ومع ذلك لا نعرف كيف نعرفها”.

يأتي هذا النهج بوضوح في ورقة مور عام 1925 بعنوان (دفاع عن الفطرة السليمة) حيث هنا يقر مور بأنّ الواقعية المباشرة والواقعية غير المباشرة والظواهر هم منافسون متكافئون إلى حد ما على التفسير الصحيح للإدراك، وذلك نظرًا لأنّنا لا نستطيع تحديد الحساب الصحيح فإنّنا لا نعرف كيف نعرف ذلك.

ومع ذلك كما يجادل سيكون من الخطأ اعتبار هذا كأساس للتشكيك الذي نعرفه أو ما نعرفه، وفي الواقع هناك العديد من الأشياء التي نعرفها جيدًا على الرغم من عدم قدرتنا على قول كيف نعرفها، ومن بين هذه معتقدات الفطرة السليمة، وافتراضات مثل: “يوجد حاليًا جسد بشري حي، وهو جسدي”، و”منذ أن وُلد هذا الجسد كان إمّا على اتصال أو ليس بعيدًا عن سطح الأرض“، و”لقد أدركت في كثير من الأحيان الجسد والأشياء الأخرى التي تشكل جزءًا من بيئته بما في ذلك الأجسام البشرية الأخرى”.

يزعم مور أنّه يعرف أنّ هذه الافتراضات والعديد من الافتراضات الأخرى صحيحة بشكل مؤكد وكامل، حيث أحد الافتراضات الأخرى التي يدعي مور أنّه يعرفها على وجه اليقين هو أنّ الآخرين قد عرفوا أيضًا أنّ الافتراضات المذكورة أعلاه صحيحة عن أنفسهم تمامًا كما يعلم أنّها صادقة مع نفسه.

ومن خلال الادعاء بأنّ هذه الافتراضات من الفطرة السليمة صحيحة بالتأكيد، يقصد مور معارضة المتشكك الذي ينكر أنّنا نعرف أي شيء على وجه اليقين، ومن خلال الادعاء بأنّ افتراضات الفطرة السليمة صحيحة تمامًا، فهو يقصد معارضة المثالي الذي قد يدعي أنّه لا يوجد بيان حول شيء ما يمكن أن يكون مبسطًا حقيقيًا لأنّ كل كائن له هويته فقط كجزء من الكون بأكمله.

دعماً لوجهة نظره يزعم مور أنّ كل اقتراح في الفطرة السليمة له معنى عادي يحدد بالضبط ما يعرفه المرء عندما يعرفه، وهذا المعنى العادي واضح تمامًا لمعظم الجميع باستثناء بعض الفلاسفة الذين:

“يبدو أنّه يعتقد على سبيل المثال السؤال “هل تعتقد أنّ الأرض كانت موجودة منذ سنوات عديدة ماضية؟” وهذا ليس سؤالًا بسيطًا، مثل أنّه يجب أن تتم مواجهته إمّا بنعم أو لا، أو بعبارة بسيطة “لا يمكنني تحديد رأيي”، ولكن نوع السؤال الذي يمكن الإجابة عليه بشكل صحيح: “كل هذا يتوقف على ما تقصده بكلمة الأرض وموجودة وسنوات”.

لكنّ مور يعتقد أنّ التشكيك في الأمور بهذه الطريقة هو أمر منحرف، وبعيدًا عن كونها مهمة الفلسفة فإنّها تقوض هذه المهمة بالفعل، وذلك لأنّه حتى المتشكك يوافق ضمنيًا على حقيقة افتراضات علوم الكمبيوتر، على الأقل في الإشارة إلى نفسه كفيلسوف من خلال الإشارة إلى فلاسفة آخرين قد يختلف معهم وما إلى ذلك:

“لأنّني عندما أتحدث عن فلاسفة أعني بالطبع (كما نفعل جميعًا)، فلاسفة حصريًا كانوا بشرًا بأجساد بشرية عاشت على الأرض وكان لديهم في أوقات مختلفة العديد من التجارب المختلفة”.

في ظاهر الأمر يبدو أنّ فكرة مور العامة هي أنّ حقيقة مقترحات علوم الكمبيوتر ومن ثم وجهة النظر المنطقية للعالم مبنية في مصطلحات لغتنا العادية بحيث إذا أراد الفيلسوف أن يقول إنّ بعض علوم الكمبيوتر الافتراض خاطئ، وبالتالي فهو يستبعد الوسيلة ذاتها التي يعبر فيها عن نفسه وبالتالي يتحدث بلا معنى، وإمّا هذا أو أنّه يستخدم مصطلحات في شيء آخر غير حواسهم العادية وفي هذه الحالة لا تؤثر ادعاءاته على النظرة المنطقية للعالم.

وظيفة الفيلسوف في تفسير فلسفة مور:

نظرًا لأنّ حدود الوضوح تبدو وكأنّها ثابتة من خلال المعاني العادية لاقتراحات الفطرة السليمة فإنّ وظيفة الفيلسوف تبدأ بقبولها كنقاط انطلاق للتفكير الفلسفي، وبعد ذلك لا يشكك الفيلسوف في حقيقته بل ما يسميه مور تحليلهم الصحيح، ويشبه إعطاء التحليل إعطاء تعريف وفي الواقع من الصعب للغاية تحديد ما يميز الاثنين.

بالنسبة لمور فإنّ الاختلاف وجودي، أي يتم التعريف على الكلمات والتحليل على الافتراضات والمفاهيم، ولكن كلاهما يتضمن وضع مصطلحين يفترض أنّهما يعنيان نفس الشيء، وأحدهما من المفترض أن يوضح الآخر، وفي التعريف هذه هي التعريف (المصطلح الذي يتم تعريفه) والمعرّفين (المصطلح الذي يقوم بالتعريف)، وفي التحليل:

1- (analysandum) (المحلل): وهو المصطلح الذي يتم تحليله.

2- المحللين: المصطلح الذي يقوم بالتحليل.

قد يتخذ كلاهما نفس الشكل اللفظي، فعلى سبيل المثال عند القول أنّ: “الأخ هو شقيق ذكر” أو الأخ يعني أخوه الذكر، ويمكن أن تعبر هذه الجمل إمّا عن تحليل أو تعريف اعتمادًا على نوايا المتحدث، ولا يمكن تحديد الفرق بمجرد النظر، وكانت هذه مسألة إرباك كبير لمعاصري مور.

على أي حال فإنّ تحليلات مقترحات علوم الكمبيوتر هي وجهات نظر مثل الواقعية المباشرة والواقعية غير المباشرة ونظرية بيانات المعنى والظواهر وما شابه ذلك لها مكانها في الفلسفة، ولا ينبغي لهذه الآراء وفقًا لمور أن تستبعد أو تتحدى بأي شكل من الأشكال وجهة النظر المنطقية للعالم، ولكن فقط تعطينا فهمًا أعمق لما يعنيه امتلاك تجربة حسية أو التفكير في فكرة…إلخ.

إنّ نهج مور الجديد للدفاع عن الفطرة السليمة واضح أيضًا في ما يمكن القول أنّه أشهر ورقته البحثية (إثبات عالم خارجي)، وهنا بعد بذل جهد كبير لتحديد معنى (الكائن الخارجي) على أنّه (شيء لا يعتمد وجوده على تجربتنا)، يزعم مور أنّه يستطيع إثبات وجود بعض هذه الأشياء:

“من خلال رفع يدي والقول بينما أقوم بإيماءة معينة باليد اليمنى (هذه يد واحدة)، وإضافة بينما أقوم بإيماءة معينة باليد اليسرى (وهنا أخرى)”.

يبدو أنّ خط فكر مور الكامل هو هذا: “هنا يد واحدة” هو اقتراح الفطرة السليمة مع معنى عادي، وباستخدامه وفقًا لهذا المعنى يعد تقديم اليد للفحص دليلًا كافيًا على صحة الاقتراح، وأّن هناك بالفعل يد هناك، ونفس الشيء من ناحية أخرى، ولكن اليد حسب المعنى العادي لليد هي شيء مادي، بينما الجسم المادي وفقًا للمعنى العادي لكائن مادي، وهو كائن خارجي، ونظرًا لوجود يدان، ولأنّ الأيدي أشياء خارجية فإنّ هذا يعني وجود عالم خارجي، ووفقًا للمعنى العادي لالعالم الخارجي.

لم يكن دفاع مور عن الفطرة السليمة ولا برهانه على وجود عالم خارجي مقنعًا عالميًا، والبعض أساء فهم الأخيرة على أنّها محاولة لدحض الشكوك، وإذا تم أخذه على هذا النحو فمن الواضح أنّه فشل ذريع، ومع ذلك كما أصر مور نفسه لاحقًا لم يقصد أبدًا دحض الشكوك ولكن فقط لإثبات وجود العالم الخارجي:

“لقد ميزت أحيانًا بين افتراضين مختلفين، بحيث قدم كل منهما بعض الفلاسفة وهما أولًا الافتراض (لا توجد أشياء مادية)، والافتراض الثاني (لا أحد يعرف على وجه اليقين أنّ هناك أي أشياء مادية)، وفي محاضراتي الأخيرة بالأكاديمية البريطانية بعنوان (إثبات وجود عالم خارجي) أشرت ضمنيًا فيما يتعلق بأول هذه الافتراضات إلى أنّه يمكن إثبات أنّها خاطئة بطريقة كهذه.

أي برفع إحدى يديك وقول: “هذه اليد شيء مادي، ولذلك هناك شيء مادي واحد على الأقل، ولكن فيما يتعلق بالثاني من الافتراضين لا أعتقد أنني أشرت في أي وقت مضى إلى أنّه يمكن إثبات أنّها خاطئة بأي طريقة بسيطة”.

نقد نهج مور في فلسفة الفطرة السليمة:

إنّ نهج مور الجديد لتعزيز الفطرة السليمة مفتوح أمام تهمة التوسل في السؤال من خلال افتراض أنّ مقترحات الفطرة السليمة صحيحة وفقًا لمعانيها العادي، حيث طرح فيتجنشتاين هذه النقطة بصراحة: “يكمن خطأ مور في هذا، معارضة التأكيد على أنّه لا يمكن للمرء أن يعرف ذلك بقوله أنا أعرف ذلك”.

ومن خلال رفض المتشككين بهذه الطريقة كان مور في الواقع يرفض الاعتراف بأنّه في ظل الافتقار إلى تفسير واقعي معقول ومباشر للإدراك فإنّ هناك أسبابًا مشروعة للتشكيك في حقيقة مقترحات الفطرة السليمة، وإذا كان من الممكن أن تكون الواقعية المباشرة خاطئة، فمن الممكن ألّا يربطنا أي من تجاربنا بالعالم المنطقي.

وبالتالي ليس لدينا دليل لا يقبل الشك لوجود مثل هذا العالم، وبافتراض وجود أشياء مثل مقترحات الفطرة السليمة ومعانيها العادية، فمن المحتمل أنّها تفشل في تمثيل الواقع بدقة، وهكذا فإنّ كلًا من دفاع مور وإثباته لا أساس لهما من الصحة، ولا يمكن الحفاظ عليهما إلّا بالتوسل في السؤال أو هكذا يذهب الاعتراض.

حاول البعض الدفاع عن مور أو على الأقل رد أسلوب موريان على الشك، من خلال أخذ ادعاء مور على محمل الجد حيث أنّه لم يكن يحاول دحض الشكوك، واعترافه بأنّ هذا سيكون أمرًا صعبًا للغاية، وإذا وضعنا مسألة الإثبات جانبًا فيمكننا تفسير نهج مور الجديد على أنّه:

1- أولاً ما يجعل الفصل نظيفًا بين أنطولوجيا الإدراك وما أصبح معترفًا به باعتباره الجانب الرئيسي الآخر لنظرية المعرفة أو علم المعايير.

2- ثانيًا محاولة التعامل مع التشكك من منظور الأخير فقط، وفي حين أنّ أنطولوجيا الإدراك تتعامل مع مشكلة كيفية معرفتنا، فإنّ علم المعايير يتعامل مع مشكلة ما نعرفه، وبمعنى ما هو مبرر لنا في الاعتقاد.


شارك المقالة: