فلسفة ميل في النفعية والحقوق والليبرالية

اقرأ في هذا المقال


بعد فحص ليبرالية الفيلسوف ميل يمكننا العودة إلى التوتر الواضح بين الحقوق الليبرالية والنفعية، حتى لو استخدم ميل تصنيفات معقدة وليست بسيطة يبدو أنّ هناك توترًا بين الحماية القاطعة للحريات الأساسية ونوع التحليل العواقبي لكل حالة على حدة الذي يبدو أنّ النفعية تتطلبه، وقد نفكر في ثلاث استراتيجيات مختلفة للمصالحة.

فلسفة ميل في نظرية الحقوق الجزائية:

تم تقديم نظرية الحقوق الصريحة لميل في الفصل الخامس من المذهب النفعي في سياق نظرية العقوبة الخاصة به والتي هي شكل غير مباشر من النفعية التي تحدد الأفعال الخاطئة كأفعال مفيدة للعقوبة، وثم يقدم ميل العدالة كجزء مناسب من الواجب، ويتضمن العدل واجبات حيث هي واجبات كاملة أي واجبات مرتبطة بالحقوق.

“تعني العدالة شيئًا ليس من الصواب القيام به فقط ومن الخطأ عدم القيام به، ولكن يمكن لشخص ما أن يطالب به منا باعتباره حقًا”.

ويشرح ميل نظريته عن الحقوق من حيث عنصرين في انتهاك الحقوق حيث الضرر الذي يلحق بصاحب الحق والعقاب المبرر.

“يعد هذان العنصران هما إيذاء لشخص أو أشخاص معينين من جهة، ومطالبة بالعقاب من جهة أخرى، وهذان شيئان يشملان كل ما نعنيه عندما نتحدث عن انتهاك حق ما، وعندما نطلق على أي شيء حق شخص ما فإننا نعني أنّ لديه مطالبة صحيحة على المجتمع لحمايته في حيازته، إما بقوة القانون أو من خلال قوة التعليم والرأي، وإذا كان لديه ما نعتبره مطالبة كافية على أي حساب للحصول على شيء يضمنه له المجتمع، ونقول أنّ له الحق في ذلك، وإذا كنا نرغب في إثبات أنّ أي شيء لا يخصه بالحق، فإننا نعتقد أنّ هذا يتم بمجرد الاعتراف بأنّ المجتمع يجب ألّا يتخذ تدابير لتأمينه له ولكن يجب أن يتركه للصدفة أو لمجهوداته الخاصة”.

هذه نظرية عقابية للحقوق شبيهة بنظرية الجزاء التي وضعها ميل، وتقول أنّ المرء له الحق في بعض المصلحة أو الحرية بقدر ما يجب على المجتمع حماية تلك المصلحة أو الحرية، وحتى الآن لا يقدم مفهوم الحق هذا أي اعتبارات نفعية، حيث يضيف ميل النفعية إلى المزيج في وصفه للظروف التي يجب على المجتمع في ظلها أن يفرض مطالبة الفرد.

“أن يكون لك الحق إذن هو كما أتصور أنّ يكون لديك شيء يجب على المجتمع أن يدافع عني في حوزته، وإذا استمر المعترض في التساؤل عن سبب وجوب ذلك فلا يمكنني إعطائه أي سبب آخر غير المنفعة العامة”.

نظرية الحقوق هذه هي نظرية نفعية غير مباشرة بقدر ما تشير ضمناً إلى أنّ ما إذا كان لشخص ما الحق في شيء لا يعتمد على فائدة هذا الادعاء ولكن على فائدة ردودنا على انتهاكات هذا الادعاء.

ولكن هل توفر نظرية الحقوق للعقوبات توفيقًا جيدًا بين الحقوق والمنفعة؟ ليس من المستغرب أن ترث نظرية العقوبات للحقوق مشاكل نظرية الجزاء للواجب، ولا بد أننا وجدنا أنّ نفعية العقوبات غير متسقة داخليًا بقدر ما تجمع بين ادعاءات نفعية غير مباشرة ومباشرة، ولأنّ نظرية العقوبات للحقوق ملتزمة بمعاقبة النفعية فإنّها ترث هذا التناقض.

  1. يتمتع (X) بالحق في (Y) إذا كان يتعين على المجتمع حماية مطالبة (X) بـ (Y) من التدخل (الجزء الأول من نظرية العقوبات للحقوق).
  2. يجب على المجتمع حماية مطالبة (X) بـ (Y) من التدخل إذا كان القيام بذلك هو الأمثل (الجزء الثاني المباشر من نظرية الحقوق للعقوبات).
  3. يجب على المجتمع حماية مطالبة (X) بـ (Y) من التدخل إذا كان من الأفضل إلقاء اللوم على المجتمع لفشله في القيام بذلك (نظرية العقوبة غير المباشرة للواجب).

(2) و (3) غير متسقين، ويمكن للمرء أن يرد بفصل نظرية العقوبة عن الحقوق عن نظرية الجزاء للواجب، ولكن إذا رفضنا نظرية الجزاء للواجب فلماذا نقبل نظرية العقوبة للحقوق؟

علاوة على ذلك فإنّ نظرية العقوبات للحقوق لها مشاكلها الخاصة، حيث تتعامل نظرية الحقوق مع استصواب الإنفاذ الاجتماعي على أنّها مكونة لفكرة الحق، ولكن يبدو أنّ هذا يعيد الأمور إلى الوراء لأنّ لدينا حقوقًا يجب على المجتمع أن يفرضها، ولا يعني ذلك أننا نتمتع بحقوق في أي مجتمع يجب أن يفرضه.

يبدو أنّ استصواب الإنفاذ الاجتماعي تترتب على وجود هذا الحق، وهذا أكثر وضوحًا لأنّ هناك بعض الادعاءات التي يجب على المجتمع أن يفرضها ليست حقوقًا، ومن بين الأشياء التي يجب على المجتمع إدراكها وحمايتها الحقوق والامتيازات، والخط الفاصل بين الحقوق والامتيازات ليس واضحًا دائمًا.

لكننا ندرك الفرق في الادعاء بأنّ بعض المصالح والفرص التي يجب على الدولة حمايتها ليست تلك التي يمكن المطالبة بها على أنّها مسألة حق وهذا يدل على أنّ فائدة الإنفاذ الاجتماعي لا يمكن أن تكون مكونة للحق وإلّا فإنّ الامتيازات ستكون حقوقًا، على الرغم من أنّ نظرية العقوبات هي المفهوم الصريح للحقوق لدى ميل إلّا أنّه يمتلك الموارد لمفهومين آخرين.

فلسفة ميل في الحقوق كمبادئ ثانوية:

إنّ ميل يدرك الحاجة إلى مبادئ ثانوية متنوعة في التفكير الأخلاقي وهذه هي المبادئ التي لا تشير في حد ذاتها إلى المنفعة ولكن اعتمادها ونشرها العام له ما يبرره على أسس نفعية، ولذا فإنّ إحدى الطرق التي يمكن لميل من خلالها التوفيق بين الحقوق والمنفعة هي أن يتعامل مع الحقوق على أنّها مبادئ ثانوية وربما تكون مهمة بشكل خاص والتي يتم تبرير التقيد بها على أسس نفعية.

بناءً على هذا التفسير تتم حماية الحقوق من خلال القواعد التي تعزل مصلحة الفرد أو حريته عن أنواع معينة من التدخل والتي لا تشير بشكل مباشر إلى النتائج الجيدة للعزل، ويجب أن نتقيد بهذه القواعد بشكل أو بآخر دون تمحيص ونضعها جانبًا فقط عندما يكون الالتزام بها دون المستوى الأمثل أو في حالات التعارض بين هذه القواعد (الحقوق)، وفي مثل هذه الحالات الاستثنائية يجب أن نتوجه مباشرة إلى مبدأ المنفعة لكن بخلاف ذلك لا يمكن.

لماذا يجب علينا تنظيم سلوكنا بهذه القواعد؟ لأنّ القيام بذلك هو الأمثل بشكل عام ولكن بشكل غير كامل، ونحن غير قادرين على التمييز في الحالات التي يكون فيها الانحراف عن القواعد دون المستوى الأمثل دون الانحراف عنها في الحالات الأخرى التي لا تكون كذلك.

فلسفة ميل في مبدأ الحقوق كمادئ أساسية:

لماذا يجب أن نصدق أنّ هناك مصالح أو حريات من الأفضل حمايتها بشكل عام ولكن بشكل غير كامل؟ إجابة ميل هي أنّ بعض الاهتمامات والحريات تلعب دورًا أساسيًا في سعادة الإنسان أكثر من غيرها، وفي هذه القراءة تحمي الحقوق البضائع البارزة أو المهمة بشكل خاص.

“بينما أنا أجادل في ادعاءات أي نظرية تضع معيارًا وهميًا للعدالة لا يقوم على المنفعة، فإنني أعتبر أنّ العدالة القائمة على المنفعة هي الجزء الرئيسي والأكثر قداسة وإلزامًا على الإطلاق من كل الأخلاق، والعدالة اسم لفئات معينة من القواعد الأخلاقية التي تهتم بأساسيات رفاهية الإنسان وبالتالي فهي أكثر التزامًا مطلقًا من أي قواعد أخرى لتوجيه الحياة، والمفهوم الذي وجدنا أنّه من جوهر فكرة العدالة – حق الفرد في الإقامة – يعني ويشهد على هذا الالتزام الأكثر إلزامًا”.


في الواقع إذا كانت السلع التي تحميها الحقوق مهمة جدًا فيمكننا أن نفهم لماذا قد يعتقد ميل أنّ المجتمع يجب أن يفرضها بموجب القانون أو الرأي، ولكن لاحظ أنّ قابلية الإنفاذ هنا هي نتيجة لأهمية الحقوق وليس السمة المميزة للحقوق.

يفترض هذا المفهوم للحقوق تسلسلاً هرميًا للقيم تكون فيه بعض أنواع السلع متفوقة على أنواع أخرى، ونحن نعلم أنّ ميل يقبل التسلسل الهرمي للقيم من مذهبه عن الملذات العليا، ويتعامل هذا المذهب مع امتلاك القدرات واستخدامها في المداولات العملية على أنّها سلع أعلى مرتبة، وتعد الحريات المختلفة للفكر والعمل مهمة كشرط ضروري لتحقيق هذه الخيرات العليا.

ولكن إذا كانت الحقوق التي نمتلكها هي سلع ذات أهمية خاصة فيمكننا أن نرى كيف أن احترام الحقوق يعزز الخير، فمن خلال الفرضية سيكون من الأفضل احترام الحقوق عندما يتعارض ذلك مع الترويج لسلع أقل، وقد نقول إنّ الحقوق تتفوق على هذه السلع الأقل أهمية، ولا تتفوق الحقوق على السعي وراء سلع أخرى ذات أهمية مماثلة، ويجب التعامل مع هذه النزاعات على أنّها تضارب في الحقوق ويجب على المنفعي حل هذه النزاعات من خلال اللجوء إلى المبدأ النفعي أولاً وتحديد أي الحق في السياق هو الأكثر أهمية.

توفر هذه المفاهيم الثلاثة للحقوق طرقًا مختلفة نوعًا ما للتوفيق بين المنفعة والحقوق، ويتمثل الاختلاف الأكبر بين نظرية الجزاء من ناحية والمبدأ الثانوي ومفاهيم السلع البارزة من ناحية أخرى، لأنّ الأول هو المفهوم النفعي غير المباشر للحقوق في حين يتوافق الثانيان مع النفعية المباشرة، وفي حين أنّ نظرية العقوبات للحقوق تبدو إشكالية فإنّ المبادئ الثانوية ومفاهيم السلع البارزة تبدو أكثر منطقية، وسيكون من السابق لأوانه القول إنّها مفاهيم مناسبة تمامًا للحقوق لكنها تقدم بعض الأمل في التوفيق بين المنفعة والحقوق.


شارك المقالة: