قصة أحقاً مات

اقرأ في هذا المقال


يُعد المؤلف والأديب لويجي بيرانديللو وهو من مواليد دولة إيطاليا من أهم وأبرز الكُتاب الذي برزوا في القرن التاسع عشر، كما تميز في كتابة القصص القصيرة والروايات وحصل على جائزة نوبل في الأدب كتكريم على أعماله الأدبية التي أبدع بها، ومن أكثر القصص التي اشتهر بها هي قصة أحقاً مات.

قصة أحقا مات

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول اللحظة التي اضطر بها الركاب الذين غادروا مدينة روما في أحد القطارات الليلية السريعة إلى الوقوف في إحدى المحطات في مدينة فابريانو ومضوا هناك حتى بزوغ الفجر، وذلك من أجل تكملة رحلتهم في أحد القطارات المحلية الصغيرة والذي كان ذو طراز قديم حتى يقوم بنقلهم إلى مدينة سيلومانا.

ومع حلول الفجر كان الهواء فاسد للغاية في إحدى عربات من الدرجة الثانية، إذ أصبحت تعج بالدخان، وكان في تلك العربة خمسة أفراد قضوا ليلتهم هناك، ثم بعد ذلك التحقت بهم امرأة يظهر على ملامحها الحزن الشديد، وكأنها بجسد لكن من دون ملامح، وكان خلفها زوجها، حينما تمكن الزوج من الجلوس في مقعده قام بتقديم الحلوى بكل لطف إلى الشخص الذي ساعد زوجته وأفسح لها المكان، وحينها سأل الزوج زوجته: هل أنتِ على ما يرام عزيزتي؟ ولكنها لم ترد عليه على الإطلاق، بل قامت بوضع شالها مرة أخرى على وجهها بأكمله وكأنها تريد إخفاء ملامحها بالكامل.

وفي تلك الأثناء قام الزوج بالتمتمة مع نفسه وقال: الحياة كلها تعب ومشقة، وحينها انتابه الشعور بالقيام بتوضيح الأمر لمن يجلس بجانبه من المسافرين، إذ أن زوجته تستحق الشفقة؛ وذلك لأن الحرب قد أخذت منها أعز ما لديها وهو فلذة كبدها الوحيد، والذي كان شاب في ربيع شبابه.

كان الزوجين يكرسان حياتهما بالكامل لابنهما، حتى وصل بهم الأمر أن يقوما بمغادرة منزلهما والذي يقع في مدينة سيلومانا، وذلك من أجل اللحاق به حين ذهب لإكمال دراسته في مدينة روما، ثم وافقا له فيما بعد بأن يقوم بالتطوع في الحرب، وذلك بعد أن إقناعه لهما بأنه لن يتم إرساله إلى الجبهة الأمامية، ويكون ذلك على الأقل في أول ستة أشهر من التحاقه بالجيش، ولكن ما حدث غير ذلك إذ تسلما منه برقية يخبرهم فيها بأنه لا بد وأن يذهب إلى الجبهة خلال الثلاثة أيام القادمة، وكان قد طلب منهم أن يأتوا من أجل وداعه.

كانت الزوجة الحزينة في تلك اللحظة تثق بأن كل أمر يقوم زوجها بتوضيحه لن يحظى بتعاطف الآخرين، حيث أن الجميع كانوا قد بدوا في الأغلب وكأنهم في نفس المحنة التي تعيشها، وقد رد أحدهم بعد أن استمع جيداً لحديث الزوج : ينبغي أن تحمد الله أن ابنك لم يذهب إلا حد هذه اللحظة إلى الجبهة، فقال الزوج: لكن ابني قد ذهب إلى الجبهة منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، وقد رجع جريحًا مرتين ثم رجع إلى الجبهة من جديد.

بينما تحدث آخر وقال: وأنا ماذا أقول عن حالي، فإن لي ولدين على الجبهة الآن، كما أن لأخي ثلاثة أبناء، هنا قال الزوج بكل جرأة: في الحقيقة قد يكون لديك حق، ولكن نحن وضعنا يختلف بعض الشيء؛ وذلك لأنه ابننا الوحيد، فرد الرجل: وما الفرق قد تُفسد ابنك الوحيد من كثر الاهتمام به، ولكنك من المستحيل أن تحبه أكثر إذا كان لديك أبناء آخرين، لأن حب الأب لأبنائه لا يشبه الخبز الذي يمكن تقطيعه وتوزيعه بالتساوي بين الأبناء، إنما الأب يقدم لأبنائه كل الحب دون تقسيمه.

وهنا أكمل الرجل كلامه وقال: إنني حين أعاني من أجل أولادي الاثنين، فهذا الأمر لا يعني أنني أعاني نصف معاناة لكل واحد منهما، بل إنني في الحقيقة أعاني الضعف، وهنا شعر الزوج بالإحراج وتنهد قائلًا: حقًا، ولكن علينا أن نتمنى أن لا يحدث ذلك، إن الأب الذي يمتلك ولدين في الجبهة قد فقد واحد منهم، إذ سوف يبقى الآخر له، ولكن ماذا يفعل من ليس لديه إلا ولد واحد، ردّ الرجل وقال: نعم بالفعل سوف يتبقى لديه آخر حتى يعينه باقي حياته، ولكن هنا يكون الوالدين هم من يعانوا من أجله، بينما في حالة الأب الذي لا يملك إلا ولد واحد، فمن الممكن أن يموت الأب بعده واضعًا نهاية لمعاناته، فيا ترى أي الحالتين يبدو وضعه أسوأ؟.

وفي ذلك الوقت قام رجل ثالث بمقاطعة حوارهما والذي كان رجل سمين، وقال: كل هذا هراء، ثم قام بتكرار الكلمة مرة أخرى وهو يحاول أن يغطي على فمه بيده، كما لو كان يريد أن يخفي موضوع أسنانه الأمامية المفقودة، ثم قال: وهل ننجب الأبناء من أجل مصلحتنا الشخصية، وهنا نظر إليه الناس بكل غضب.

وهنا أول من تحدث إليه هو الرجل الذي يمتلك ولد واحد، فقال: بالفعل إن أولادنا ليسوا لنا، بل إنهم للدفاع عن الوطن، وهنا ردّ الرجل السمين وقال مرة أخرى أيضاً:  هراء، فهل نفكر في الوطن حين ننجبهم، إنما أولادنا قد وُلدوا لأنهم ينبغي وأن يولدوا، وحينما يقدمون إلى هذه الحياة، فإنهم يأخذون معهم حياتنا، نعم نحن لهم ولكنهم ليسوا لنا، فنحن كذلك كنا في مثل عمرهم حين بلغنا من العمر العشرين، وكان لنا آباء، ولكن كان لدينا اهتمامات أخرى كذلك.

وأكمل الرجل البدين قوله: فمن منا كان في ذلك الوقت يسمع لوالديه حينما كانا يقولا له لا تفعل، والآن في عمرنا هذا أصبح حب الوطن كبيرًا حقًا، لكنه أكبر منه بكثير، فمن منا يعترض إذا جاءت له الفرصة حتى يكون مكان ابنه في الجبهة؟!، بدأ الناس يستمعون في اهتمام وموافقة على حديثه فأكمل الرجل حديثه بقول: لماذا لا نقدم كل الاهتمام بمشاعر أولادنا حين يبلغون سن العشرين، ألا يكون من الطبيعي أن حبهم للوطن هو أعظم من حبهم لنا؟، وإنني هنا أتحدث عن الأبناء الصالحين.

وأكمل البدين حديثه قائلًا: إن أولادنا ينظرون إلينا على أننا هرمنا ولا نستطيع الحركة، وبما أن حاجتنا للوطن أمر ينبع من الفطرة مثل الحاجة إلى رغيف الخبز، إذ لا بد أن يوجد من يدافعون عنه ويحموه، ولقد أصبح بمقدور أولادنا فعل ذلك، حينما بلغوا سن العشرين، لذلك فهم لا يريدون منا ذرف الدموع عليهم، وفي حال لاقوا حتفهم، فإنهم سوف يكونوا سعداء، وماذا يمكن أن نتمنى أكثر من ذلك لشاب يموت وهو بكامل سعادته، دون أن يرى من الحياة الجانب السيء، فينبغي أن يكف أي أب عن البكاء، ويبتسم بكل ما فيه كما أفعل أنا ويرضى بما قدره الله كما أرضى أنا.

وأكمل حديثه: لقد بعث لي ابني رسالة قبل أن يلقى حتفه، إذ يخبرني بأنه سوف يموت وهو راضي تمام الرضا عن نفسه؛ وذلك لأن حياته سوف تنتهي بأجمل طريقة، ولذلك لم أرتدي يوماً من الأيام أي لباس حداد من أجله، ثم قالم الرجل بتحريك معطفه محاولاً بذلك أن يكشف أنه لا يرتدي تحت المعطف أي ملابس حداد، ثم ختم حديثه بضحكة مدوية عميقة، وفي تلك اللحظة وافقه المسافرون بقولهم: كلام صحيح حقًا.

وطوال ذلك الوقت كانت المرأة العجوز متغطيه تحت شالها في زاوية الكرسي تستمع إلى ذلك الرجل، فهي كانت تحاول على الدوام أن تجد في كلام زوجها وأصدقائه المواساة الحقيقية للتخفيف حزنها العميق، كانت تبحث عن أي أمر يقنعها بكيفية ارسال أم لابنها الوحيد إلى مكان فيه خطر، وليس حتى إلى حد الموت كما حدث معها تماماً، ولكنها لم تجد أي كلام يشفي غليلها، ولكن هنا قد اختلف الوضع تماماً، بسبب حديث ذلك الرجل، حتى اكتشف أنها لم ترقى بنفسه حتى تكون مثل هؤلاء الآباء الذين أكملوا حياتهم من دون بكاء.

حاولت أن تستمع المرأة العجوز بتركيز إلى كل كلمة يقولها الرجل البدين عن ولده، وكيف أنه بطل وقد ضحى في سبيل الدفاع عن الوطن، وكأنها دخلت عالم لم تحلم به على الإطلاق، ثم فجأة سألت البدين: هل حقًا مات ابنك؟، حملق فيها الرجل وحاول أن يجيبها للحظة، لكنه حينما حدق إليها اكتشف فجأة أن ابنه مات للتو بالفعل، وانخرط في بكاء مرير.

المصدر: قصص إيطالية، الكاتب لويجي بيرانديللو، سنة النشر 2004.


شارك المقالة: