قصة الجواد الأبيض

اقرأ في هذا المقال


يُعتبر المؤلف والأديب ياسوناري كاواباتا وهو من مواليد دولة اليابان من أشهر الكُتاب اليابانيين حول العالم، إذ كان لرواياته وقصصه صدى واسع حول العالم، وقد حصل على جائزة نوبل في الأدب على الرغم من أنه بدأ في التأليف في مرحلة مبكرة من العمر، ومن أكثر القصص التي لاقت رواجاً كبيراً هي قصة الجواد الأبيض.

قصة الجواد الأبيض

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة تحت شجرة من السنديان، حيث كانت تسطع أشعة الشمس الذهبية على أوراق تلك الشجرة، لكنها لم تقدر أن تصل تلك الأشعة إلى قاع الشجرة، إذ أن أوراق السنديانة كانت كثيفة وتلتف حول الشجرة التي كانت مختلفة عن باقي الأشجار بغلظ ساقها وأغصانها الكثيرة، وتحت تلك الشجرة كان جاء رجل يدعى نجوتشي للاسترخاء قليلاً.

وجراء أوراق الشجرة الكثيفة والتي كانت على نحو متداخل، إذ لم يكن بالوسع رؤية الشمس بحد ذاتها، وإنما كانت الشمس هي الضوء الذي ينشر ذاته داخل الأوراق، وقد كان قد اعتاد نجوتشي على رؤية الضوء بتلك الطريقة، ومن الجهة العليا للشجرة كانت خضرة الأوراق متوهجة بالحياة، وإذ امتصت أوراق السنديانة الضوء، وتحولت إلى اللون الأخضر الشاحب بنصف شفافة، كما أخذت تتمايل مع هواء النسيم.

وبينما كانت أشعة الشمس توشك على الغروب كانت أوراق الشجرة تبدو ساكنة، وفي لحظة ما تجمد الضوء فوق أوراق الشجر دون أي حركة، وهنا لاحظ نجوتشي أن لون السماء أصبح بلون الغسق، إذ لم يكن ذلك لون عتمة الليل حيث كانت لا تزال الشمس وسط السماء، لكنها على وشك المغيب، وهنا فجأة جاء الضوء الفضي المتألق وسقط على أوراق السنديان من خلال سحابة صغيرة بيضاء، فقد كانت خلف الشجر الكثيف والتي بدورها عكست أشعة الشمس وقت الغروب، ومن جهة اليسار من الشجر كان هناك العديد من الجبال التي تلتف حولها مجموعة من الغيوم ذات اللون الأزرق القاتم.

وفي لحظة من اللحظات انطفأ بشكل مفاجئ الضوء الفضي الذي انعكس على الشجر الكثيف، وبدأت أوراق الشجر تميل في لونها إلى الأسود، ومن أعالي الأشجار جاء حصان أبيض عالي، وانطلق يعدو عبر السماء ذات اللون الرمادي في تلك اللحظة، لم يندهش نجوتشي بشكل كبير، فلم يكن ذلك الأمر الغريب بالنسبة له، وقد كانت هناك فتاة تعلو الحصان تلبس رداء أسود، وبينما كان طرف الرداء الفتاة يرفرف خلفها، وفجأة انفصلت الفتاة عن الجواد، وهنا بدأ يفكر نجوتشي حول ما حصل.

وفي تلك الأثناء اختفت الرؤية، ولكن صوت قوائم الجواد بقى في ذاكرة نجوتشي، وبالرغم من أنّ الجواد بدأ أنه يركض إلى الأمام بشكل مباشر، إذ يوحي وكأنه جواد سباق، إلا أنه كان هناك إيقاع يسير على مهل بينما كان هو يعدو، شعر نجوتشي بالقلق جراء ذلك القماش ذو اللون الأسود خلفها، وبدأ بالتساؤل: ما هذا أكان قماش في الأصل؟

وهنا أخذ نجوتشي بالرجوع في ذاكرته إلى المرحلة التي كان فيها بالصفوف العليا من المدرسة الابتدائية، حيث كانت هناك فتاة تعرف باسم تيكو وقد كانت تلعب في وقت ما في حديقة المدرسة، حيث كان هناك سور من زهرة الدفلى العطرة مزهرًا، ووفي إحدى المرات رسما صورة معاً لجياد، وقد كانت الصورة لحصان يعدو في السماء، فأول من بدأ بتلك الرسمة كانت تيكو، وحين شاهدها نجوتشي رسم صورة مماثلة لها.

وهنا صرحت تيكو عن تلك الرسمة أنّ ذلك الحصان هو الذي دهس الجبال، وجعل النبع المقدس الموجود في الجبال تتفجر ماؤه، فهل ينبغي أن تكون له أجنحة؟ فقال نجوتشي: إنني رسمت حصاني بأجنحة، فردت عليه تيكو: إنه ليس بحاجة إلى أي أجنحة؛ لأنه يمتلك سنابك حادة جداً، وأخذت تتفاخر بقول من الذي يعتلي صهوته إنها تيكو، تيكي هي التي تعتليه، إنها تعتلي الجواد الأبيض، وكانت في تلك اللحظة ترتدي ملابس حمراء مائلة إلى اللون الوردي.

وهنا أخذ نجوتشي يرد: أوه، إذن تيكو هي التي تعتلي الحصان الذي قام بدهس الجبال وفجر ماء النبع المقدس، فردت تيكو عليه: ولم لا فإنّ حصانك يمتلك أجنحة، ولكن ما من أحد يعتليه، وهنا سرعان نيجوتشي برسم شكل طفل فوق الحصان، ولكن كل ذلك كان قديماً، بينما الآن كبر نيجوتشي في العمر وتزوج من فتاة وأنجب أطفال.

وعند عودة نجوتشي إلى منزله كان يتكرر تلك الحدث القديم إلى ذاكرته بشكل مستمر، وفي إحدى الليالي كان قد سيطر عليه القلق فيها، وكان في تلك الفترة أحد أبنائه قد فشل في اجتياز امتحان والالتحاق بإحدى الجامعات، إذ كان يرفض المذاكرة، وبدأ من هنا سيطرة الأرق أيضاً على نجوتشي ليس بسبب فشل ابنه، بل كان في تلك الفترة يشعر أن الوحدة والعزلة بدأن يطغيان على حياته.

حاول نيجوتشي العديد من الطرق من أجل النوم، حيث حاول التفكير في تصورات خيالية جميلة مليئة بالأمل وذكريات هادئة، وفي إحدى الليالي تذكر تلك اللحظة التي رسمت بها تيكو الصورة للحصان الأبيض، لم يكن يتذكرها بشكل واضح، فلم تكن تلك الذكرى التي مرّت في تفكيره مجرد صورة لطفلة في ذلك الوقت، إنما بالفعل كان قد شاهد الحصان الأبيض يعدو عبر السماء حين أغلق نجوتشي جفونه في الظلام.

وأخذ يتساءل: أكانت تيكو التي تعتلي الحصان وترتدي الثياب الحمراء الوردية؟ حيث كان الكيان الذي ظهر به الحصان الأبيض الذي يعدو عبر السماء واضحاً بشكل كبير، ولكن هيئة من يعتليه وشكله لم يكونا واضحين، ولم يبدو أنها فتاة ومع تباطء السرعة التي يعدو بها عبر السماء المعتمة ومع انحسار الرؤية كان نيجوتشي يسيطر عليه النعاس، ومنذ تلك الليلة تعمد نيجوتشي إلى استخدام رؤية الحصان الأبيض كدعوة يوجهها إلى النعاس ليطغى عليه.

ومع مرور الوقت تخلص نجوتشي من الأرق بفضل استدعاء رؤية الحصان الأبيض، وقد كان الحصان الأبيض يتدفق بالنشاط والحيوية، ولكن من يعتليه يبدو أنه أصبحت امرأة أخرى ترتدي ملابس سوداء، ولم تكن صبية ترتدي ثياب حمراء وردية، وازداد شكل تلك المرأة ذات الرداء الأسود غموض مع مرور الوقت.

وفي أحد الأيام بدأت رؤية الجواد الأبيض لنجوتشي أمر معتاد، فليس يستدعيه بينما هو راقد في فراشه ومغمض العينين، وإنما بينما يكون جالس أثناء النهار وهو مفتوح العينين، وكانت تلك المرة الأولى التي يحدث ذلك الأمر مع نجوتشي، كما بدأ أيضاً يظهر الرداء التي يرفرف فيها، إذ كان شيء يشبه أحد أنواع القماش ذو اللون الأسود يرفرف خلف المرأة، وبالرغم من أنه كان يرفرف في ظل جو مليء بالهواء، إلا أنه كان يبدو أنه من أنواع القماش الثقيلة والسميكة، وبدأ يتساءل: ما هذا؟ أخذ نجوتشي بالتحديق أكثر في السماء التي كانت في تلك اللحظة مليئة بالغيوم الرمادية، والتي انحسرت بسببها رؤية الحصان الأبيض، ولم يكن أيضاً قد شاهد تيكو منذ أربعين سنة مضت، فلم يدرك كيف أصبحت ملامحها الآن.


شارك المقالة: