قصة الحصان الهرم

اقرأ في هذا المقال


تُعد هذه القصة من الروائع الأدبية التي صدرت عن الأديب إميل فرانسوا زولا، وقد تناولت في مضمونها الحديث حول حال الحيوانات التي تقدم إلى الإنسان الكثير من الخدمات، وأنه لولاها لما كان هناك ازدهار في مختلف أرجاء المناطق، وأنه مهما تمكن الإنسان من اختراع الآلات فلا يمكن الاستغناء عن الحيوانات، كما يتوجب على الإنسان أن يقدم الرعاية والاهتمام للحيوان الذي يستفيد منه جزاء لتعبه وجهده.

قصة الحصان الهرم

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول أحد الرجال والذي كان يقوم بسرد حادثة كانت قد حدثت معه على أرض الواقع، وأول ما بدا به هو قوله: كنت في يوم من الأيام أتنزه في بعض الأراضي الخلاء في إحدى الضواحي التي تعرف باسم ضاحية مونروج، وفي ذلك اليوم من العام كانت السماء التي توحي بأن الأمطار قريبة تضفي الغم على قلب الإنسان، حيث أنه إن كان هناك على وجه الأرض بقعة يسكنها أي من الأحزان والأشجان والبؤس والشاعرية المفجعة كانت متوهجة في قلبي، وعلى مرأى ناظري كانت هناك الحقول الموحلة الممتدة حتى عتبة أبواب مدينة باريس تشبه إلى حد كبير عتبة من الطمي القذارة لعروس مدن العالم.

وفي ذلك الوقت كانت هنا وهناك تنشق الأرض بشكل فظيع ومروع، إذ تكشف لكل من يشاهدها عن مقالع قديمة مهجورة شاحبة اللون ويتخللها الحزن العميق، إذ تبدو أنها أحشاء مبقورة متناثرة في الهواء الطلق، ولا يوجد هناك أي شجرة يانعة ولو واحدة، وكل ما هنالك دواليب الرافعات الضخمة فقط، وقد كانت تلوح في ذلك الأفق الخفيض الرتيب.

وفي تلك الأثناء كانت كافة أراضي المدينة لديها ذات المظهر البائس المقزز وتطوقها الكآبة من جميع الجوانب، وعند كل منعطف مجموعة من الأكواخ المتداعية، بالإضافة إلى أكوام من الحطام والركام المتموج بالألوان الباهتة، ومشاهد تدمي القلب بجروح عميقه ينزف منها الحزن على بلاد مزقتها يد الإنسان.

وبينما كنت أصول وأجول في القرية لمحت عند أحد المنعطفات حصان، وقد كان ذلك الحصان كبير في العمر وهرم تم ربطه بعمود، كان ذلك الحصان يحني برأسه إلى الأسفل وأنفه ينفث بخار نحو الأرض، كما يبدو أنه حيوان مسكين، وكان في تلك اللحظة التي رأيته بها يرتعد وتهزّه ارتعاشه متواصلة، ويقف إلى جانب العمود منتصب وهزيل تحت السماء الداكنة، وفي لحظة من اللحظات بدأت الأمطار الرقيقة تتساقط وتنساب من بين ضلوعه.

ومن خلال تلك المناظر التي رأيتها كان هناك ثمة تناغم بين ذلك الحصان الهزيل وتلك السماء الشاحبة وذلك الحقل الكالح، مثل ذلك البؤس والكرب الذي يقطن داخلي تماماً، فلكل من المخلوق والريف دموع، إذ كم كانت شكوى أليمة بذلك الكائن وذلك الخراب الذي يعم المدينة.

وبعد مرور عدة لحظات شعرت بأن هناك رحمة عظيمة قد عصفت بقلبي، إذ انتفضت ووقفت متناسياً نفسي وقد تأثرت بتلك الملامة الأليمة التي كانت تعج بداخلي، والتي كنت أستشفها من نظرات ذلك الحصان المسكين، وفي تلك الأثناء لم أكن أدرك إنني رأيت ذلك في منامي وحلمي، إلا أنني كل ما أريده هو أن أنقل لكم الكلام الذي وجهه إليّ ذلك الحصان الهرم، حيث قال: إنني في صباح يوم الغد سوف ألقى منيتي، وكل ما تبقى أمامي هو أنني في هذا المساء سوف أفتح قلبي وأتحدث عن كل ما يجول بداخله؛ وذلك من أجل أن أخفف عنه حمله الثقيل المدمي.

على الرغم من أنني لست واثقاً تمام الثقة بأنه باستطاعتي تحسين قدر أشقائي، لكنني سوف أنقل لك أيها السيد على الأقل حقيقة، وتلك الحقيقة يكمن بها ثمرة سنوات حياة طويلة من حياة عاشها حصان فيلسوف. إليك هذه الحقيقة: العمل الجاد والحقيقي النابع من القلب يثري الرجال، والعمل كذلك هو من يقود الأحصنة إلى المسلخ، وفي ظل ذلك ظلم الصارخ، إنني أؤمن بأن الله وهبكم وأكرمكم بقدر من الذكاء أكبر مما نتمتع به، إلا أنه منحكم هذا القدر من الذكاء حتى تتمكنوا من منح باقي خلقه السعادة.

انظر إلى إلى حالي يا سيدي، إذ أن أشقاءك بالغوا في استغلال قواي واستنفذوا طاقتي، وكلّما كنت أخدمهم بإخلاص ازدادوا قسوة في حالي، وإنني في هذا اليوم أطلب الثأر لجسدي، حيث أنه يوجد قانون عادل ينص على مكافأة العامل بحسب المهام التي قام بها وأنجزها، وإنني بموجب هذا القانون أطالب أن نكسب في سنوات شبابنا الراحة والعناية التامة اللتين تطالب بهما شيخوختنا.

ولا أريد منك يا سيدي بأن تجادلني وتقول بأننا حيوانات ولا نستحق سوى الضرب والعمل، وأننا من أسباب خلقنا هو إرضاء الإنسان، بل نحن أشقاء بسطاء العقول ونتسم بالطيبة، وفي يوم من الأيام سوف يأتي يوم وتحاسبون به على سوء استخدامكم لنا وسوء المعاملة، وحينها سوف يحسب عليكم كل آلم من آلامنا وجراحنا، إننا في الحقيقة مطيعون، فلماذا لا تكونوا إذاً طيبون؟ نقبل بأن نخذكم طوال حياة كاملة بكل رضا، ولذلك يتوجب عليكم أن تقبلوا لنا ومنحنا موت أفضل من ذلك.

وكل ما أطلبه منك يا سيدي في هذه اللحظة إذا كان في قلبك رأفة ورحمة أن تسرد على أشقائك ما قلته لك، وفي حال لم يستمعوا إليك، إنني على الأقل لن أحمل معي الحقيقة الفلسفية التي قضيت حياتي برمتها في صياغتها، وهنا تنهد الحصان وأكمل حديثه بقوله: آه كم أنني حيوان حزين وكم ستكون حزينة الأرض التي سوف يتم دفني بها.

وفي النهاية صمت الحصان المسكين أو بالأحرى استيقظت أنا من منامي، وقد كان المطر ما زال ينهمر بشكل خفيف ولطيف، وحين ألقيت نظرة أخيرة إلى المشهد الكئيب الرتيب للمدينة وإلى الحصان الخائر القوى وإلى هذه الوحول من نافذة غرفتي، ثم دخلت بنظري إلى مدينة باريس، والتي كانت تضيء ثريتها مبتهجة لا تأبه بكل ما هو موجود من ضباب وبرد.

وأخيراً انتفضت بأفكاري على قلة مبالاتنا وأنانيتنا حول كافة الأشياء من حولنا، وكل رغبتي كانت تصب في تحقيق الأمنيات الأخيرة لذلك الحيوان المسكين، فأي حقيقة جديرة بأن أبوح بها، أهو قلم أترحم به على مصير مونروج التي سوف تتحول غداً إلى ذلك المنظر الذي شاهدته في منامي وإلى ما واصلنا إليه بوتيرتنا هذه، أم إلى القصور والحدائق العامة، إلا أنني وجدت أنه من الأفضل أن أترحم على مصير ذلك الحصان الحزين المسكين، وأطالب من أجله بمأوى غير المسلخ، ماذا بوسعنا أن نقول؟ أدار للعجزة؟!.


شارك المقالة: