يُعتبر المبدع والأديب هانس أندرسن الدنماركي من أهم وأبرز الكُتاب والشعراء الذين برزوا على مستوى دولة الدنمارك وغيرها الكثير من دول العالم، حيث كانت الغالبية العظمى من قصصه تحاكي الأطفال وقد كانت على الدوام تتصف بالقصص الخرافية من نسج الخيال، وهذا ما جعل الكثير من المترجمين يحولون قصصه إلى برامج أطفال وإلى العديد من اللغات العالمية، ومن أكثر القصص التي صدرت عنه وحققت شهرة كبيرة حول العالم هي قصة الحنطة السوداء.
نبذة عن القصة
تناولت القصة في مضمونها الحديث حول موضوع حقول الحنطة حيث على الدوام حينما يمر الإنسان بالحقول التي تم زراعتها من قِبل الزارعين بحبوب الحنطة بعد حدوث جو عاصف جداً، يرى أنها أصبحت حبوب سوداء ويابسة، إذ تبدو وكأنها عبارة عن لهب من النار قد سار فوقها وحرقها جميعاً، وفي تلك اللحظة يستاء المزارعين والفلاحين ويرجعوا السبب في ذلك إلى نار البرق، ولكن كثيراً ما كانوا يتساءلون عن السر الذي في البرق ليجعل حبوب الحنطة بهذا الشكل ويقضي عليها بالكامل.
قصة الحنطة السوداء
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول سرد الراوي إلى قصة كان قد سمعها من عصفور، إذ كان ذلك الأسلوب يستخدمه الحكواتي عندما يريد أن يخبر مجموعة من الأطفال بقصة يعرفها منذ الزمن القديم، حيث بدأ بقوله: سوف أخبركم يا صغاري عن قصة أخبرني العصفور بها، إذ كان قد سمعها من شجرة صفصاف قديمة وعظيمة، وقد كانت وما زالت تسكن في حقل من الحنطة السوداء.
إذ كانت تلك الشجرة من أشجار الصفصاف الكبيرة والموقرة في تلك المنطقة، ولكن كانت مليئة بالتجاعيد فهي عجوز وتعيش في ذلك المكان منذ زمن قديم جداً، وفي أحد الأيام انشق عنها جذعها من منتصفه، حيث بدأ هنا ينمو في ذلك الشق العليق والعشب، كانت أغصان الشجرة تتفرع من الجهة الأعلى وتتدلى نحو الأرض، وقد كان يبدو وكأن للشجرة شعرًا طويلاً جميلاً أخضر اللون وبديع.
وفي تلك الفترة كانت قد نمت في كل الحقول المجاورة حبوب كثيرة من مختلف أنواع الحبوب مثل الشوفان والشعير والزوان، كان حبوب الشوفان ينمو بشكل جميل للغاية، إذ يبدو حين يكتمل نضوجه تماماً مثل جمع من طيور الكناري التي تصف على الغصن، كما كانت الحبوب مباركة جداً، إذ كانت كلما ثقلت حباتها وازدادت ما زادها ذلك إلا انحناءً وتواضعًا.
كان بالقرب كذلك من الحقل المليء بالحنطة حقل توجد به شجرة من الصفصاف، كانت الحنطة في ذلك الحقل لم تنحني على الاطلاق مهما تعرضت لأي حادثة مناخية، كما كانت تنحني الحبوب الأخرى في الحقول المجاورة، بل كانت اشرأبت رؤوسها نحو الأعلى مغرورة بنفسها منتصبة، فلربما كانت ليست غنية مثل السنبلة، وهنا قالت الحنطة السوداء: على الرغم من طغيان اللون الأسود على منظري إلى أني أجمل بكثير من الحبوب الأخرى الموجودة في هذا الحقل، إذ تبدو أزهاري جميلة للغاية مثل زهور شجرة التفاح، وأنها ممتعة للنظر، وهنا سألت الحنطة السوداء شجرة الصفصاف: هل رأيت من هم أجمل منا يا شجرة الصفصاف؟.
وهنا هزت شجرة الصفصاف برأسها فقد أرادت أن تقول: نعم في الحقيقة لقد من هم أجمل وأبدع منكن، ولكن الحنطة لم تأبه بهذا الرد ونفخت رأسها بكل تعالي وغرور وقالت: لا، لا يوجد هناك من هم أجمل منا، وأكملت حديثها بالتوجه نحو الشجرة وقالت: أيتها الشجرة الحمقاء، أنتِ مجرد عجوز أصبتني بالخرف وقد بدأت تنمو الحشائش في جوفك.
وذات يوم بشكل مفاجئ انقلب الجو رأساً على عقب إذ ثارت عاصفة، حيث عملت على الطبق على كل زهور الموجودة في الحقول وأوراقها كاملة، وقطعت رؤوسها الرقيقة بالكامل حينما هبت العاصفة، وفي تلك الأثناء بقيت الحنطة السوداء تشرئب بعتقها وتزهو نحو السماء، فقالت لها الزهور في الحقل حينها: احن رأسك مثلنا، فردت مفتخرة بنفسها: أنا لست بحاجة إلى ذلك، وقد كررت ذلك القول عليها أيضاً الحبوب: احن رأسك مثلنا، سوف يأتي ملاك الريح طائرًا ولديه أجنحة تمتد من أعلى الغيوم حتى تصل إلى تحت الأرض ويعصف بك، وفي تلك اللحظة سوف يقطع رأسك قبل أن تتمكني من ترجيه طالبة للرحمة والرأفة منه، فردت الحنطة: لا أريد أن أنحني.
وهنا أخذت شجرة الصفصاف تنصح حبوب الحنطة بقولها: أغلقي أزهارك على الفور واحني أوراقك، ولا تنظري عاليًا باتجاه البرق، سوف تتفجر الغيوم وتدمر أزهارك وتقطع أوراقك، وحتى البشر لا تتحمل ذلك العصف القوي ولا النظر في البرق، إذ أن في البرق يمكن للمرء أن يشاهد سماء الله، كما أن هذا النظر من الممكن أن يسبب العمى للبشر، وكذلك من الممكن أن يحدث لنا كل شيء سيء، فنحن ننبت من الأرض، فهل نتجرأ على النظر إلى البرق؟ ونحن أكثر قماءة من البشر بكثير؟
كانت الحنطة يركبها الغرور وهنا اندهشت من قول شجرة الصفصاف وقالت: أكثر قماءة بكثير!؟، على كل حال سوف أقوم بالنظر إلى سماء الله بشكل مباشر، وقد أقدمت على فعل ذلك بكل تعالي وغرور، وفي تلك اللحظة كأن العالم بكامله أصبح مثل كأنه شبّ لهبًا، وهنا أبرقت السماء وحينما قصفت العاصفة وبدت الزهور والحبوب منتعشة بالمطر وسط الهواء الهادي والنقي، بينما الحنطة السوداء فقد أصبحت وكأنها متفحمة من البرق، فقد كانت عشبة ميتة لا تنفع الحقل بأي شيء.
وهنا بدأت شجرة الصفصاف تحرك جذورها مع هبوب الهواء، وفي تلك اللحظة سقطت حبوب ماء كبيرة من بين أوراقها، وكأن الشجرة بدأت بالبكاء، وهنا حدثها العصفور الذي كان يقطن بين أغصانها: لماذا تذرفين كل هذا البكاء؟ كل شيء في هذا الحقل بفضل الله جميل ويوحي بالسرور، انظري إلى الشمس كيف أنها مشرقة وتضيء بنورها كل الحقل، وها هي الغيوم ترحل إلى مكان آخر، ألا تجعلك كل تلك الأمور سعيدة، كما يفوح عطر الأزهار والشجيرات من حولك، فلماذا تبكين أيتها الشجرة العجوز؟ وما الذي يحزنك إلى هذا الحد؟.
وفي ذات مساء تحدثت شجرة الصفصاف إلى العصفور قصة الغرور التي كانت تتسم به الحنطة السوداء ومدى تعاليها، والعقاب والجزاء الذي حصلت عليه يأتي على هذا الشكل نتيجة للغرور، وهنا قال الراوي أنا الذي أقص عليكم هذه القصة قد سمعتها في أحد الأيام من العصفور فلقد حكاها لي عندما رجوته أن يقص عليّ حكاية خرافية.