قصة الكذبات الإيجابية

اقرأ في هذا المقال


تُعتبر هذه القصة من روائع الأعمال الأدبية التي صدرت عن الكاتب ألفارو لوزانو، وقد تطرق من خلال محتواها إلى الإيجابية التي تتصنع بها أمهات القتلى وشهداء الحروب من قوة، حتى يناصرن الحياة واستحضار القوة للاستمرار بها، إذ أن قضايا أبنائهن وصفت أنها خارج نطاق القضاء ولم يتم وصفها كجريمة حرب والحكم فيها.

قصة الكذبات الإيجابية

في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول ذكريات مؤلمة لسيدة تدعى ماريا، وأول ما خاضت بذاكراتها إلى ذلك اليوم التي بزغ بها فجر الصباح، وقد كان صباح ذلك اليوم مختلف عن غيره من الأيام، حيث فتحت عيونها على يوم جديد من النضال والمقاومة، وهنا قالت في نفسها: كان منزلي يتخبط هنا وهناك من أجل الفرار من القنابل وطلقات الرصاص والصواريخ، إذ كان يتم استهدافه دون أي وعي أو مبالاة من جميع الجوانب ومن مختلف الاتجاهات، ولم يتبقى منه أي فتحات جدران أو شقوق مفتوحة إلا وتلقت شيء من أسلحة الحرب، إلى أن أصبح ذلك المنزل أكبر شاهد على تلك الأحداث الأليمة.

وقد كان قد مر على تلك الأحداث ما يقارب خمسة أعوام حين استحضرت السيدة ماريا تلك صورة من الماضي، وفي تلك الأثناء كانت تقف هي وزوجها أمام منزلهما المهدم ويدوران بنظراتهما على كل بقعة من ذلك المنزل، وهنا قالت السيدة ماريا لزوجها: انظر إلى تلك البقعة كنت تفضل أن تشرب قهوتك بها، فعلى الرغم من أنك كنت تفضلها مرّة، إلا أنها كانت ذات طعم مختلف هنا في تلك البقعة هل تتذكر يا عزيزي؟

ومن هنا عادت السيدة ماريا وزوجها إلى منزلها والذي كان قد انتقلت إليه بعد أن تم هدم منزلها جراء الحرب، وأول ما توجهت إليه هو أنها قامت وأحضرت ألبوم الصورة القديمة التي كانت تحتفظ منذ فترة طويلة، وكل ما فتحت صورة من تلك الصور بدأت تسير عليها بأصابع يدها وكأنها تريد أن تستشعر تلك الذكريات من جديد، لقد تكررت مشاهد الحرب في ذهنها ألف مرة، وقد حاولت مراراً أن تنظم تلك الأفكار والمشاهد وتضعها في إطار الذكريات، إلا أنها لم تقوى على ذلك، وفي تلك اللحظات كانت تلتزم الصمت وتحاول أن تكتم دموعها.

وبعد لحظات من الصمت بدأت بالحديث عن حادثة ابنها الذي فقدته في الحرب، إذ أشارت إلى أن في الحقيقة أن روح ابنها لم تُفقد إلى الأبد، ففي يوم أمس كانت قد زارته في القبر، وقد وجدوا إلى جانب قبره أحد أصدقائه المقربين والذي يدعى غونزالو، حيث كان يجلس إلى جانب قبر ابنها الموجود في المقابر المركزية، كما أوضحت أنه تم قتل ابنها بطريقة وحشية وغدره من الخلف، وأنها استغربت من تواجده صديقه إلى جانب قبره، فوالدته التي تدعى السيدة ديانا تخاف عليه كثيراً حتى أنها خاضت في العديد من المشاكل مع العسكريين بسبب عدم تسليمها ابنها للعمل معهم، فهي لا تسمح له بالخروج من المنزل على الاطلاق.

ومن هنا بدأت السيدة ماريا بالحديث عن ابنها والذي يدعى أنطونيو، حيث قالت: قبل ما يقارب خمسة أعوام كان قد قرر أن يتخذ طريقه الخاص، وفي تلك الفترة كان عقله مشوش إلى حد كبير جراء استوطان الوهم والإحباط به، وقد كانت تلك المشكلة يعاني منها منذ أن كان في مرحلة الطفولة، فالإحباط هو الذي كان يدير مشاعره ويتحرك على أساسها، كما أن الإحباط كذلك كان يخرس أي الأفكار بداخله، وهذا النوع من المشاكل النفسية تعرف بأنها وباء المدانين في الأرض.

وفي يوم من الأيام أراد أن ينفرد بنفسه من أجل تناول قهوته في مكان هادئ، وسار يبحث في تلك الجبال البعيدة عن القليل من الكرامة، ولكن هناك انتهى كل شيء فقد قاموا بقتله غدراً، ولم يتبقى لها سوى ظلها الذي يحاصر الأشياء وبعض بقايا حياة أنهكتها حرب والتي لم تقرر أبدًا أن تخوضها.

وبعد كل تلك الذكريات التي تخبطت في ذاكرتها، نهضت السيدة ماريا من مكانها وقالت لزوجها: في هذا اليوم سوف أعود للمنزل في وقت متأخر، وهنا توجهت بنظرها للخارج وأردف حديثها بقولها: انظر لقد وصلوا بعض الزملاء من أماكن مختلفة، ففي ذلك اليوم كانت الساحة العامة ممتلئة، وأكثر ما كانت ممتلئة بالنساء اللواتي لم يحصى عددهن، ففي تلك اللحظات كانت جموع النساء يحملن صور أبنائهن الذين فُقدوا في الحرب، وقد كان المشهد دون حدود وكأنه يمتد إلى الأفق الواسع، ولكن على الرغم من عظمة المشهد، إلا أنه كانت كل واحدة منهن تحمل رقمًا دقيقًا وهو (3.765)، وقد كان ذلك الرقم يعبر عن عدد المدنيين الأبرياء الذين تم خداعهم في مناطق القتال وقتلوا بدم بارد وتم تقديمهم كضحايا للعدو وغنائم حرب.

حيث أن هؤلاء القتلى كانوا جميعهم من العائلات الفقيرة والضعيفة، وقد استغل العدو هذا الفقر والضعف فيهم وقد قدموا لهم وعوداً مزيفة بأنهم سوف يحصلون على فرص عمل برواتب مجزية، إلا أنهم بعد أن تمكنوا منهم تم إعدامهم جميعًا دفعة واحدة في مذبحة جماعية، وعلاوة على ذلك تم التبليغ عنهم ونشر أخبارهم في الإعلانات أنهم مقاتلين، واليوم امتلأت الساحة العامة بعد وقت الظهيرة كاليوم الموعود من كل عام، وقد كانت جميع صورهم تلك تذكر العالم أنهم أقاموا حرب وقتلوا المدنيين دون أي مشاعر من الرحمة، وفي ذات اليوم من كل عام كان يتضاعف الألم في أجساد أولئك الذين لا يحملون السلاح.

وفي النهاية تحدثت ماريا إلى مجموعة من السيدات الوافدات من مختلف المناطق المحيطة قائلة: لقد تركني ابني منذ خمس سنوات، إذ بعد أن هموا بقتله والاعتداء عليه بمختلف الطرق الوحشية قاموا بوضع السلاح بين يديه، وبدل أن ينالوا القاتلين جزائهم تم تكريمهم والإشادة بهم بأنهم أبطال الحرب والانتصار، وأثناء حديثها معهن لاحظت كم أن طابع الفزع قد ختم على ملامح وجوههن، وكل ما تنطق به تلك الملامح هو الألم والحسرة والحزن على فقدان أبنائهن، وأنهن أصبحن جراء هذا الفقدان الأليم يقمن في مدن وكأنهم لم يكن ينتمين إليها في يوم من الأيام.

إلا أن السيدة ماريا حين رأت تلك النساء بذلك الضعف وجهت لهن رسالة بليغة وأشادت بهن أنه يتوجب عليهم أن يصبحن نساء قويات، وذلك من أجل إعالة عائلاتهن وقدرتهم على تدبير أمور منازلهم وأبنائهن المتبقيين لديهن، فالحياة لا يمكن أن تستمر لإنسان ضعيف، فالحياة بحاجة إلى قوة من أجل الاستمرار والمحاربة للعيش بها، وأخيراً حين اتمت ما تريد توجيهه لهن قامت بعناق كل واحدة منهن، وقد كان ذلك العناق يبرز مدى الألم الذي يشعرن به، أصبحن جمعيهن كشخص واحد إذ اتحدن بقوة سوياً، إلا أن الماضي المشترك منحهن لقب أمهات الكذبات الإيجابية.


شارك المقالة: