تُعتبر هذه القصة من روائع الأدب للأديب غي دي موباسان، وقد تناولت في مضمونها الحديث حول وصية سيدة ظلمت في حياتها، ولم تستطع التعبير عما بداخلها سوى بعد وفاتها من خلال تلك الوصية.
قصة الوصية
أول ما دارت الأحداث كانت على لسان أحد الأصدقاء المقربين من الشخصية الرئيسية في القصة وهو شاب يدعى رونيه، حيث أن ذلك الصديق قد بدأت علاقة صداقته برونيه منذ فترة وجيزة، وأول ما بدأ بالحديث عنه هو وصف شخصية رونيه، إذ قال أنه شاب لطيف المعشر ووسيم يطغو على ملامحه الحزن ما يتضح من نظراته أنه على علم ودراية تامة بكل ما يدور حوله، وأكثر ما يظهر عليه هو طابع الحذر، إذ أنه باستمرار يشعر أن هناك رياء إلى حد كبير في المجتمعات المخملية، وفي أغلب الأحيان يردد: الرجال الشرفاء لم يعد أي وجود لهم في هذه الحياة، وكل ما هو موجود أن هناك القليل من الرجال الشرفاء والذي يظهر خاصية الشرف بهم حين تتم مقارنتهم بالرجال السفهاء والأوغاد.
ويقول صديق رونيه: إن هناك شقيقين لرونيه، إلا أنهم لم يكن يقوم بزيارة أياً منهم في يوم من الأيام وهما ما يدعيان أبناء دو كورسيل، وهو ما ظننت أن ثمرة الزواج الثاني لوالدته؛ وذلك جراء لاختلاف اسم كنية العائلة لكل منهما، وقد تراود على مسامعي مراراً أن هناك قصة غريبة قد حدثت مع تلك العائلة، إلا أنني لم أسمع أي تفاصيل قط.
وفي مساء أحد الأيام بينما كنت أتناول وجبة العشاء برفقة رونيه دار بيننا حديث ومن ضمن الحديث سألته حول فيما إذا كان هو من الزواج الأول أم الثاني لوالدته؟ وفي تلك اللحظة بدأت ملامح رونيه بالتغيير وكأنه يحاول أن يغلق الأمر ولا يرغب بالحديث فيه، إذ بدا عليه الارتباك ثم بعد ذلك ابتسم ابتسامة يتخللها الحزن وقال: يا صديقي سوف أقص عليك بعض الأحداث المثيرة عن أصلي، إن لم يكن في ذلك ما يسبب لك الإزعاج، كل ما عرفته عنك أنك رجل ذكي، وأنا لا أخشى على صداقتنا مما سأرويه على مسامعك، وفي حال ما سوف أقصه عليك سوف يؤثر ويؤذي علاقتنا سأقطع هذه الصداقة.
في البداية كانت والدتي والتي تدعى السيدة دو كورسيل فتاة صغيرة في السن وخجولة، في بداية حياتها اقترنت برجل كان طامع في ثروتها، وقضت معه عدة سنوات من العذاب والمعاناة، إلا أنها مع كل ما كانت تعرفه عنه كانت ودودة الروح ورقيقة المعشر وكان يعاملها زوجها والذي من المفروض أن يكون بمثابة والدي بشكل قاسي ويستعمل العنف معها على الدوام، وقد كان من طبقة النبلاء سكان الريف.
ولم يمضي شهر واحد على زواجها منه إلى أن بدأ بخيانتها مع العديد من النساء، ولكن ذلك لم يمنع من أن تنجب منه طفلين، وعاشت والدتي معه في ظلال ذلك البيت الصاخب كفأر يتسلل في الأثاث، تنظر للناس بعين لا يفارقها الخوف، وعلى الرغم من الجمال التي كانت تتسم به والدتي، إلا أنه استمر في خيانته لها.
وفي أحد الأيام كان من بين أصدقاء السيد دو كورسيل الذين كانوا يتوافدون على المنزل باستمرار أحد الضباط المتقاعدين من كتيبة الفرسان، وقد كان ذلك الضابط هو سيد أرمل وعنيف كذلك، ولم يتردد في يوم من الأيام في اتخاذ القرارات الصارمة وهو السيد ما يدعى دو بورنفال، وهو ذات الشخص الذي أورثني اسمه، وحين كنت أشاهده أرى عبر قامته التي تتسم بالطول وذلك الجسم النحيل والشارب الأسود علامات الشدة والبأس، وبيني وبين ذلك المتقاعد شبه كبير، وأكثر ما كان يقضي ذلك الضابط وقته به هو المطالعة فلا يفكر كأقرانه من الرجال، كما أن إحدى جداته كانت صديقة مقربة من الفيلسوف جان جاك روسو.
ومن خلال تكرار زيارته إلى منزل السيد دو كورسيل شعرت والدتي تجاهه بالحب وهو كذلك كان يبادلها ذات الشعور، إلا أن بقيت علاقتهما طي الكتمان، وقد اضطرت تلك السيدة أن تتعلق به كالغريق الذي يتعلق بقطعة قش، وقد ظلت والدتي ضاغطه على قلبها الذي ظل مغلقاً، ولم تقتصر المعاملة بعنف على السيد دو كورسيل، إنما شقيقاي كذلك كانا يعاملاها بقسوة مثل والدهم تماماً، ولم يبديا أي حنية تجاهها، وكان يتم اعتبارها من متممات البيت فقط لا أكثر من ذلك، أما أنا فقد كنت الوحيد من تلك العائلة التي أكن لها محبة كبيرة جداً، وهي كذلك تكن لي محبة كبيرة.
وقد وافتها المنية وأنا ما زلت في الثامنة عشر من عمري، ولكنها كانت تدري وتعي تماماً ما سوف يحصل بعدها؛ ولذلك حصلت من زوجها على حكم قانوني لصالحها، والذي تمثل في تحديد ممتلكاتها وفصلها عن ممتلكاته، وبذلك تمكنت والدتي من التوصية بكامل إرادتها وبفضل تفاني كاتب بالعدل وذكائه.
وفي أحد الأيام أبلغنا كاتب المحكمة أن وصية والدتي موجودة لديه، وقد استدعانا جميعاً ومعنا السيد دو بورنيفال؛ وذلك ليقص علينا ما جاء فيها، وإنني أذكر ذلك وكأنه حدث يوم أمس، حيث أنه مشهد عظيم إلى أبعد حد، ويبعث على السخرية بعض الشيء، كان الجميع جالسين ينتظرون بهدوء في مقاعدهم، وقد كان السيد دو بورنيفال قد دخل وجلس على المقعد الموجود خلفي متخفياً بمعطفه وكان شديد الشحوب.
وفي تلك الأثناء دخل كاتب العدل وأقفل الباب خلفه، وبدأ يقرأ علينا وقال: أنا الموقعة أدناه أعبر هنا وأنا بكامل إرادتي وقواي العقلية والجسدية عن رغباتي الأخيرة، وفي بداية الأمر أطلب العفو والمغفرة من رب السماء والعفو والصفح من ابني رونيه عما سوف أذكره في هذه الوصية، لكنني أؤمن ايماناً ثابتاً أن ابني ذو القلب الكبير والحنون قادر على ادراك الواقع وسوف يفهمني ويسامحني فقد اتخذني السيد جان زوجة له بحساب مقدر لكل كبيرة وصغيرة، ولم أمكث معه طويلاً حتى بدأ في استحقاري وقهرني وكان يخونني بشكل مستمر دون انقطاع، ولكنني أسامحه كل على كل ما قام به.
وابناي الكبيران لم يعطفا عليّ في يوم من الأيام، إذ لم أكن أشعر بحبهم على الاطلاق، إلا أن روابط الدم لا معنى لها بدون المحبة المقدسة والتسامح، أما أنا فأواجه ربي فلا أخاف شيئاً بعد وفاتي من الرياء البشري المخجل وأجاهر بأفكاري وأبوح بها، وإنني أسلم كل ما تعود ملكيته إليّ حسب القوانين المشرعة لأمين سر قلبي السيد بيير دو بورنفال؛ وذلك من أجل أن يستفيد منه بعد ذلك ابننا الحبيب رونيه، هذه رغبتي وقد عبرت عنها في صك آخر مصدق إضافة للوصية.
أما بالنسبة إلى القاضي الأعلى فاحص القلوب والذي يسمعني ويعرف سريرة قلبي، أعلن أنني لم ألقى الحب المتفاني والحنان الصامد إلا لدى عشيقي، وإنني أطلب من رب السماء أن تجمعه مع ابنه المحبة حتى الممات، تلك هي رغبتي الأخيرة ونهاية ما أصبوا إليه.
وفي تلك اللحظة نهض السيد دو كورسيل من مقعده وصاح بأعلى صوته إنها سيدة مجنونة، حينها نهض السيد دوبورنفال وأعلن بأعلى صوته: أنا السيد بيير، وقد أعلن أن ما احتوته الوصية ليس سوى الحقيقة، وقال: أنا على استعداد تام لإثبات ذلك أمام أي إنسان، وأن أبرهن عليه بالأوراق والإثباتات التي بحوزتي، وقد وقف الرجلان بوجه بعضهما البعض، وقد رغب كل منهما بصفع الآخر.
ثم بعد ذلك التفت السيد بيتر نحوي وقال: أنت ابني ولكن ليس لي حق أن آخذك معي الآن، ولكن إن أنت تبتغي من تلقاء نفسك فالأمر يكون مختلف، شددت على يده الممدودة دون أن أجيب بأي كلمة ودون أن أدرك الأمر خرجت برفقته، وبعد مرور ما يقارب الأسبوع حدثت مباراة بين كل من دو كورسيل والسيد بيتر، وقد كانت نتيجة تلك المباراة أن قتل السيد دو كورسيل، وفي تلك اللحظة التزم شقيقاي الصمت.
وخشية الفضيحة تنازلت لهما عن نصف ما تركته والدتي من إرث وقبلا ذلك، وأخذت اسم والدي الحقيقي تاركاً الاسم الذي ألصق بي بالقانون ولم يكن في الحقيقة لي، أما والدي الحقيقي فقد مات قبل ما يقارب خمسة أعوام، ولا أزال حتى هذه اللحظة في حالة حزن على فراقه وفقدانه، وفي النهاية أقول: نعم إن وصية والدتي هي أجمل وأصدق ما تقوم به الأم.
