تُعد هذه القصة من القصص القصيرة التي صدرت عن الأديب غي دي موباسان، وقد تناولت في مضمونها الحديث حول أحد الرجال الذي تعلق قلبه بامرأة وقد غير كامل حياته من أجل أن يحظى بالزواج منها، إلا أن ماضيه قد عاد إليه فجأة بعد زواجه منها وكان يحمل بين يديه طفل له، وهو ما كان ابنه، إلا أن ذلك الماضي لم يغير من حياته شيئاً، فقد احتضنته زوجته الثانية وكأنه أحد أبنائها.
قصة الوليد
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة في صباح أحد الأيام بينما كان البطل ممدداً على الرمال جانب الشواطئ، ويمضي معظم وقته بالنظر إلى النساء ولكنه في لحظة ما توقف عند سحر فتاة شابة تدعى بيرت، وقد كانت تبدو بيرت ذات روح طيبة وبسيطة وناعمة تماماً كنعومة الخدود والشفاه، ومنذ تلك اللحظة كان قد أحبها لدرجة جنونية، وعندما تحدث إليها وتعرف على عائلتها أعجب بكامل أفرادها، ومنذ تلك اللحظة وكلما يلمح الفتاة ولو من بعيد كان يرتعش من رأسه حتى قدميه، وحين تقترب منه يصاب بنوع من الغيان في قلبه وتشويش في عقله.
وفي ذلك الوقت قرر أن يتخذ تلك الفتاة زوجة له، ولكن حينما تقدم وطلب يدها للزواج ترددت عائلتها كثيراً؛ وذلك جراء تأثرهم بسمعته السيئة، إذ قيل أنه له صديقة قديمة وهو على علاقة متينه وقوية معها، وقد كانت علاقته بها لا تنقطع أبداً على الرغم من خوضه في العديد من العلاقات مع النساء، إلا أنه في كل مرة يعود لتلك الصديقة.
ومنذ أن سمع بذلك تعهد بأن يقوم بالعمل جاهداً على استقامت سيرته، وأول ما قام به هو أنه لم يعد يقابل تلك الصديقة القديمة، وهنا قام بدفع لها مبلغ من المال وأمن لها حياة كريمة وقطع علاقته بها نهائياً، وطلب منها أنه لا يريد حتى أن يسمع سيرتها أو أي أخبار عنها، ولكن تلك الصديقة كانت تكتب له رسالة تلو الأخرى، لكنه لم يفتح أياً منها وفي أغلب الأحيان يمزق تلك الرسائل حال وصولها.
وفي ذلك الوقت كانت عائلة بيرت قد أعطوه مهلة حتى نهاية فصل الشتاء، وبالفعل حين أقبل فصل الربيع تم الرد على طلبه بالموافقة، وهنا تم الزواج في مدينة باريس في الأيام الأولى من شهر أيار، وفي تلك الأثناء قرروا أن لا يذهب العروسين في رحلة عرس تقليدية، فبعد الحفل توجها الزوجين لقضاء أول ليلة من زواجهما في بيت العائلة، وفي صباح اليوم التالي ذهب العروسان في رحلة إلى ذلك الشاطئ العزيز عليهما حيث تعارفا على بعضهم فيه للمرة الأولى.
وفي المساء توجه العروسان إلى إحدى الغرف في أحد الفنادق المجاورة للشاطئ، وقد كانت تلك الغرفة صغيرة وذات طابع ياباني تزينها ستائر مصنوعة من الحرير ذات ألوان زاهية وبهية، ومضيئة من خلال ألوان ثريا ملونة تتدلى من السقف على شكل بيضة ضخمة، ومن نافذة الغرفة كان الهواء الندي يهب ويداعب وجهيهما، ويحمل بين نسائمه عطر ربيعي منعش.
وفي تلك الليلة كانت تشعر العروس ببعض القلق والتوتر في بعض الأحيان؛ وقد بدا ذلك جراء تغيير نمط حياتها التي اعتادت عليها، وفي أحيان أخرق تطوف الدموع في عينيها بسبب الفرحة التي كانت تعيشها في تلك اللحظة، وبقيا ملتزمان الصمت إلى أن غطا في النوم.
وفي صباح اليوم التالي تم فتح الباب من قِبل أحد الخدم وقد كان حاملاً بين يديه صينية بوسطها رسالة، وأوضح الخادم أن ساعي البريد قد جاء بها، وهنا أمسك جاك الرسالة وهو يرتعش من الخوف؛ حيث اعتقد أنها من صاحبته القديمة ولكن حينما نظر ملياً إلى المغلف من الخارج لم يعرف الخط، وهذا ما جعله لا يجرؤ على فتحه، وهنا حاول أن يضع المغلف في جيبه، ولكنه في لحظة ما لمح على طرف المغلف كلمتين هما: هام وعاجل.
وهنا وكأن أزاح الهم عنه وسأل عروسه: هل تسمحين لي بقراءتها، وبعد موافقتها فتح المغلف وقرأ الورقة، وبدأت ملامحه تشحب بشكل مريع، حين رفع رأسه عن الرسالة تمتم بكلمات قال فيها: يا صغيرتي الحبيبة، وهنا سرعان ما غير حديثه وقال لزوجته إنه أعز أصدقائي وقد تعرض لمصيبة كبيرة جداً وهو في تلك اللحظة بحاجة إليّ في أمر عاجل، إذ هناك مسألة حياة أو موت، هل تسمحين بالتغيب لمدة تقارب على عشرين دقيقة؟ لن أمكث طويلاً سوف أعود قريباً؟.
وهنا سرعان ما أبدل ثيابه وتناول قبعته ونزل وفي ضوء الشارع قرأ الرسالة مرة أخرى وقد كان فيها: عزيزي إن هناك فتاة تدعى رافيه وهي صديقتك السابقة كما يبدو، قد وضعت للتو طفل ويبدو أنه لك، حيث أن والدته سوف تتوفى وتطلب منك فرصة أخيرة للمحادثة معها، وفي نهاية الرسالة كان التوقيع باسم الطبيب بونار.
وحينما وصل إلى المستشفى الذي تقيم به صديقته القديمة ودخل إلى غرفة المحتضرة كان الوليد يصرخ في مهده، وعند كل صرخة كانت الأم المعذبة تحاول أن تقوم بأي حركة إلا أنها كانت ترتجف تحت الضمادات الجليدية، حيث أنها نزفت لفترة طويلة جراء جرحها المميت فهي قتيلة تلك الولادة، وعلى الرغم من كل الإسعافات التي قدمت لها بقي النزيف مستمراً، وقد اقتربت من ساعتها الأخيرة.
وحين رأته المحتضرة سرعان ما تعرفت عليه وقد حاولت رفع يديها نحوه إلا أنه منعها الألم، وبدأت بذرف الدموع وقالت له: سوف أموت يا حبيبي، أريد منك أن تبقى بجواري حتى النهاية، لا تتركني في لحظاتي الأخيرة، وهنا قَبَل جبينها وشعرها وقال لها: هدئي من روعك سوف أبقى، وفي لحظة ما سكتت لبضع دقائق قبل أن تستطيع الكلام مرة ثانية وقالت: الصغير هو ابنك وقد أقسمت له، وهو بدوره قد أقسم لها أنه سوف يربيه ويحبه ولن يفارقني أبداً، وهنا تمتمت وهدأت لعدة دقائق وقالت: هاته لأرى إن كنت بالفعل تحبه فذهب وجاء بالطفل، وقام بوضعه بكل لطف على السرير بينهما، وفي تلك اللحظة توقف الطفل عن البكاء.
وهنا بقي ممسك بين يديه تلك الأيدي الملتهبة المرتعشة من الاحتضار، وفي تلك اللحظة انسحب الطبيب قامت الممرضتان بجولة قصيرة على المرضى وذهبتا من أجل الراحة على الكراسي، وقد كان الطفل نام كما أن والدته قد أغمضت عينيها وكأنها ترغب في الراحة قليلاً، ومع بزوغ ضوء النهار والذي تسلل عبر الستائر، مدت يدها بحركة فجائية وعنيفة حتى كادت أن تلقي بالطفل على الأرض، وهنا خرجت بشرجة ثم بعد ذلك هدأت وأسلمت الروح، وهنا سرعان ما هرعت الممرضتان وأعلنتا أنها رحلت، وفي تلك اللحظة طلبن من الرجل إلقاء النظرة الأخيرة على تلك المرأة التي أحبها، ثم بعد ذلك أخذ الطفل بين ذراعيه ونسي معطفه عاد إلى المنزل.
وفي ذلك الوقت كانت زوجته قلقة عليه، وبعد أن طال انتظاره، فعادت إلى منزل والديها، وأول ما وصلت إلى منزل والديها سألتها والدتها أين زوجك؟ فأجابت: إنه ما زال في الغرفة وسوف يعود قريباً، وبعد مرور ما يقارب ساعة سألها الجميع عن زوجها أخبرتهم بتلك الرسالة وعن الحالة التي أصابته بسببها، وعند ساعة الفجر حدست بحركة المشي، وحينئذ تم فتح الباب ثم تم إغلاقه بكل هدوء، ثم بعد ذلك بقليل سمعت صرخة تشبه مواء القط، وهنا نهضت جميع نساء المنزل دفعة واحدة وأولهن كانت بيرت حينها وقف زوجها في منتصف الغرفة شاحباً لاهثاً وبين يديه الطفل، وهنا قال الزوج: لقد توفيت والدته، وفي تلك اللحظة أخذت بيرت الطفل وضمته بين ذراعيها وقال: نحن من سوف نربي الطفل.