تُعتبر هذه القصة صدرت عن الكاتب والأديب لويجي بيرانديلو، وقد صنفها الأدباء والنقاد أنها من أروع القصص التي صدرت في الأدب الإيطالي، وقد تمت ترجمتها إلى الغالبية العظمى من اللغات العالمية ومن ضمنها اللغة العربية، كما تم تجسيدها في العديد من الأفلام السينمائية العالمية.
قصة ذهول
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة في مدينة روما، حيث أنه في أحد الأيام من شهر أغسطس وفي أحد الأحياء السكنية والتي بدت أنه بها عدد قليل من السكان وفي تمام الساعة الثالثة بعد الظهر، إذ كانت أشعة الشمس الحارة تخنق الأنفاس بأشعتها الحارة، كما كانت تلك الحرارة ممزوجة بالغبار، حينها وقفت عربة مخصصة في نقل الموتى أمام باب إحدى العمارات الجديدة التابعة إلى حي يعرف باسم حي براتي كاستولا، وقد بدت أن نوافذ تلك العمارات كأنها تنظر في ذهول إلى تلك العربة السوداء المخصصة لنقل الموتى.
وعند وصول تلك العربة إلى أحد المنازل التي تحمل على بابها علامة الحداد والحزن، كان سائق العربة قد هوى إلى النوم إلى أن يتم تحميل الجثة، وفي تلك الأثناء ومن الدكان الوحيد المجاور لمنزل المتوفي خرج إليه من تحت تلك مظلة دكانه والتي كانت مليئة بالقذارة والأوساخ رجل يتصبب عرقًا، وهنا رفع أكمام قميصه حتى بدت ذراعاه الضخمتان، وهتف بكلامه نحو السائق وقال: ابتعد قليلاً عن باب الدكان، وهنا رفع السائق قبعته قليلاً حتى يتمكن من رؤية الشخص الذي يتحدث إليه، وبعد لحظات أشغل العربة وابتعد عن الدكان دون أن يرد بأي كلمة، وهنا قال البقال الذي كان يراقب وضع سائق العربة: ألم يدرك السائق أن جميع الأبواب مواربة في مثل هذه الساعة، لا بد أنه سائق جديد في هذه المهنة.
وبالفعل كان ذلك السائق في الحقيقة جديد على تلك المهنة، إذ التحق بها قبل ثلاث أيام فقط، وفوق ذلك لم يروق له العمل أبداً، حيث أنه في السابق كان قد عمل كبواب وتشاجر مع كافة الجيران، ثم بعد ذلك عمل كحارس في إحدى الكنائس، إلا أنه سرعان ما تشاجر مع القسيس وترك العمل، وقد أوصل به الحال في ذلك الوقت الخامد في الحصول على عمل إلا أن يعمل مع أحد متعهدي دفن الموتى، وقد كان في ذلك الوقت على يقين تام أنه سوف يتشاجر في أحد الأيام مع المتعهد؛ وذلك لأنه ليس لديه مقدرة على تحمل الأشياء المتعبة، كما أنه كان إنسان يلازمه على الدوام الحظ السيء.
كان السائق يتميز بوجود حمرة على أنفه، والتي بدورها كانت تضايقه طوال الوقت، كما أن كان الناس يفسرونها على أنها جراء تناول الكحوليات، على الرغم من أنه لم يتذوق طعم الكحول في حياته، إلا أنه تعبه من الحياة والمعيشة قد بلغ أوجه، وفي تلك الأثناء كان يفكر من أنه قد حان الوقت لوضع نهاية لتلك المشقة في وقت قريب، وفي ذلك الوقت قد هاجمه الذباب وهو ينتظر تحميل التابوت تحت أشعة شمس.
وبعد أن مضى في الانتظار ما يقارب على النصف ساعة، خرج إليه مجموعة من الأشخاص من إحدى العمارات الواقعة على الجانب الآخر من الطريق، وقد كانوا يلهثون من ثقل تابوت الذي كان مغلف بقطيفة سوداء، وقد تم تغطيه حواشيه بقماش من اللون الأبيض، وفي تلك اللحظة كانوا منفعلون ومحتجون على وقفة العربة بعيداً عنهم وقالوا للسائق: ألم يعطوا لك عنوان المنزل؟.
وكل ما فعله في تلك اللحظة هو أن استدار نحوهم واقترب منهم دون أن يتلفظ بأي كلمة، وانتظرهم أن يفتحوا الباب الخلفي ويدفعوا التابوت داخل العربة، ثم بعد ذلك مضت العربة في خطوات بطيئة كما جاءت، كانت العربة لا تزينها أي أوشحة أو زهور، كما كان خلفها مرافقة واحدة تدعى روزي تضع الخمار على وجهها، كما كانت مرتديه ثوب ذو لون غامق، حيث وضعت على كتفيها مظلة ذات لون فاتح لتحمي نفسها من أشعة الشمس، وقد شيعت المتوفي ونكست رأسها خجلاً من هذه الجنازة التي تسير فيها لوحدها، أكثر منها حزنها على المتوفي.
وفي ذلك الوقت أشار إليها البقال وقال: جولة ممتعة، كما رد عليها التحية بابتسامة هزيلة وساخرة، وهنا التفتت نحوه روزي من تحت الخمار ورفعت يدها وحييته بقفازها النصفي، كما حاولت في ذات اللحظة أن تمد يدها لترفع ذيل ثوبها وتريه حذاءها العالي، وحينما سارت السيارة بالمتوفي نظر أحد الجيران من نوافذ إحدى العمارات وقال: يا له من مسكين السيد سوربير نارد، لقد توفي كالكلب، بينما صاحت عجوز أخرى من نافذة أخرى: يا للهول أستاذ تشيعه خادمته!، وكل تلك الأصوات كان صداها يتردد بقوة في الشارع الهادئ، وقبل أن يأخذ السائق وجهته في الطريق فكر أن يقترح على المشيعة أن يتم استئجار عربة أخرى حتى يسرعا في الوصول إلى المقبرة.
لكن روزي هزت رأسها رافضة ذلك، وسرعان ما أقسمت على أنها سوف تقوم بمرافقة سيدها سيراً على الأقدام حتى أن تصل المقبرة، وهنا رد عليها السائق: وما فائدة القسم؟ هل يشاهدك سيدك؟ فأجابت: لا إنه مجرد قسم فقط، فرد عليها: أنا سوف أقوم بدفع لك ثمن استئجار العربة لإيصالك إلى المقبرة، ولكنها رفضت مجدداً، استسلم السائق وأخذ يشق الطريق نحو المقبرة بعربته، وقد وضع في اعتباره الانتباه إلى حركة المرور المزدحمة، فهو يدرك أنه لا أحد سوف يحترم هذا الموكب الجنائزي الفريد، إلا أنه ما كاد يصل من مكان قريب حتى غط في النوم من جديد، وبهذا ترك الأمر للخيول تقود الطريق وأشار أن تلك الخيول على معرفة مسبقة بالطريق.
وفي ذلك الوقت بينما كان المارة يمرون في الطريق كانوا مستغربين من نوم السائق في عربة الموتى، وقد أشاروا إلى أن المتوفي ينام في ظلام التابوت البارد، بينما السائق ينام في عز حر الشمس، كما كان منظر الموكب الصامت في مثل هذه الساعة المكتظة مثير للاستغراب كذلك؛ وذلك لأنه لم تكن تلك الطريقة التي يتم بها نقل الميت للحياة الأخيرة، كما يبدو أن المتوفي تعمد أن لا يعطي للموت مظهر جدي ملائم، ويبدو أن السائق لديه حق في تصرفه واستسلامه للنوم.
وبقي سائق العربة مستغرق في النوم حتى أخذت الخيول تسرع في الوصول نحو المقبرة، وفي ذلك الوقت استيقظ السائق فوقعت عينه على رجل يقف على يمين الرصيف، وكان ما يميز ذلك الرجل هو أنه رجل نحيف ذا لحية، ويضع نظاره سوداء على عينيه يرتدي ثوب ذو لون رمادي مكتظ على جسده، وقبل أن يدركه السائق جيداً هجم الرجل على الخيول وأمسك باللجام وهمّ بإيقافها، وبدأ يلوح بيديه ويهدد ويصرخ ويشتم، وظل الرجل يصرخ ويثور قرب واجهة أحد المقاهي إلى أن سحبه الناس، ولكن لم يستطيع أي شخص أن يفهم ما يريده ذلك الرجل، والسبب في ثورته وانفعاله، وبعد لحظات قليلة تبين أن ذلك الرجل شرطي وقد سجل مخالفة ضد سائق العربة.
ثم بعد ذلك أكملت العربة طريقها وسط الجمهور الذي أخذ في افساح الطريق لها، وفجأة أغمي على السائق، وحين استيقظ نسي أنه كان يسوق عربة الموتى، إذ بدا له أنه ما زال يعمل في عربة الأجرة، وقد اعتاد منذ سنوات طويلة أن يدعو الناس إلى استخدام العربة واستئجارها، وحينها بدا يدعو كل من يقابله في الصعود إلى تلك العربة، وهنا وقفت الخادمة روزي في ذهول.