يُعتبر المؤلف والأديب كارلو كاسولا وهو من مواليد دولة إيطاليا من أبرز الكُتاب الذين ظهروا خلال القرن التاسع، وقد أشتهر بالعديد من الروايات والقصص القصيرة، وقد كان يعرف بأنه كاتب من طراز خاص لدى الأدباء، حيث كان أكثر ما يميز أعماله الأدبية أنه يطغى عليها الواقعية، وقد حاز على جائزة سترجا للفنون الأدبية في إيطاليا، وأكثر القصص التي اشتهر بها هي قصة زوجة التاجر.
قصة زوجة التاجر
في البداية كانت تدور وقائع وأحداث القصة حول أحد الرجال ويدعى بيترو والذين يعملون في مهنة التجارة، ومن المعروف أن مهنة التاجر تحتاج إلى الكثير من التنقل والترحال من مكان إلى آخر، وقد كانت زوجة التاجر من السيدات اللواتي يتصفن ويتميزن بالطيبة واللطافة والنعومة، إذ لم يعرف عنها في يوم من الأيام أنها قامت بإزعاج أي شخص على الاطلاق.
وقد كان يشبهها زوجها التاجر بأنها تشبه القطة، حيث أنها على الدوام تسير وراءه في البيت دون أن تتحدث أو تصدر أي تصرف يسبب الإزعاج له، وعندما كان يعزم على القيام والترحال في أي وقت، وفي خضم الارتباك الذي يحدث دومًا في مثل هذه الحالات، وبينما كان يقوم بالبحث عن شيء هنا وآخر هناك، ويفكر جيدًا فيما إذا كان قد نسي شيء من أغراض السفر، في مثل ذلك الوقت كان يشاهدها تجلس أمامه على ركبتيها كالقطة التي تجلس على ساقيها الخلفيتين.
وفي تلك اللحظة كانت تحدق النظر به بعينين ممتلئتين بالدموع، وكأنها في تلك اللحظة تريد أن تقول له: أمنحني حتى ولو مجرد نظرة واحدة على الأقل، انظر إلى حالي المأساوي والهزيل، فكم أشعر بالمعاناة بسبب أسفارك المتكررة، وهنا قال التاجر: بالفعل كانت حالة المعاناة التي تعيشها واضحة عليها بشكل كبير، وفي مثل تلك الحالة يحاول التاجر أن يداعبها ببعض الكلمات اللطيفة بقوله: هدئي من روعك إذ عليكِ أن تتماسكي إنه ينبغي أن يكون قد أصبح أمر اعتيادي، فأنتِ تعلمي أن هذه هي حياة التاجر هكذا، ثم يرجع مرةً أخرى حتى يتدبر أمر رحيله.
وكان ذات الشيء يحصل حينما يعود التاجر من سفره، إذ يكون في تلك الأثناء منشغل أيضًا؛ وذلك بسبب تفقده من تواجد جميع البضائع التي همّ بإحضارها، إضافة إلى قيامه بمحاسبة حمالي البضاعة أو انشغاله في معاقبة العاملين المتكاسلين، حيث في تلك الأثناء كان يشاهدها أمامه بشكل مفاجئ تحدق به بعينين تملاهن البهجة والابتسامة، وكأنها تود أن تخبره دون أن تنطق بأي حرف أنها تشعر بكامل السعادة والفرحة تغمرها جراء رؤية من جديد زوجي الغالي.
وكان التاجر يوصف حياته في تلك الفترة أنها جميلة للغاية، وأنه سعيد بها جداً، حيث عاد لوصف زوجته بأنها كانت تتميز بالمرح والعفوية مثل جرو صغير، على العكس منه تماماً إذ كان لا يولي الزوجة أي اهتمام أو رعاية أو حيز في حياته؛ ويعود السبب خلف ذلك أن حياة التجار هكذا فقد يقظوا كامل حياتهم في الصول والجول في البلدان، لا ينشغل تفكيرهم أي شيء سوى أمور التجارة، وكيفية تسيير أمور أعمالهم، وكان كل من يرى الزوجة يعلم كم هي مغرمة بزوجها بيترو وهو لا يعيرها أي اهتمام على الاطلاق.
لكن أكثر اللحظات التي كانت تتركز في ذهن التاجر هو السعادة التي تعتريها والحيوية التي تكون بها حين عودته من أي رحلة تجارية، ولكن في أحد الأيام عاد التاجر من رحلته وعند وصوله البيت شرد ذهنه للحظات إذ شعر هناك أمر ينقص وصوله، إذ كان معتاد على رؤية زوجته في استقباله بكل بهجة وسور، ولكن في تلك اللحظة لم يشاهد زوجته من حوله، وهنا توجه صوب المنزل وتجول بداخله ولم أجدها على الاطلاق، حينها نادى بصوت عالي عليها: روزوتشا.
وعند سماع زوجته بندائه حضرت على الفور، فحدق بها بنظرات منتبه بها إذا كان بها شيء، ولكنه لم يرى شيئاً بها، وهنا سألها: هل أنتِ مريضة يا روزوتشا، فأشارت له بإيماءات وجهها أنها ليست مريضة، فتابع قوله: ولكنك بالفعل أنتِ مريضة، انظري إلى حالك كف أصبحت، فكم أنتِ مرهقة، حيث أن يبدو بشكل واضح أن لون وجهك شاحب وعيناك غائرتان إلى الداخل، وهنا اندهشت زوجته من كلامه وهزت برأسها كما أمسكت على شفتيها .
في تلك اللحظة أدرك التاجر كل شيء وتعجب في ذاته وقال لنفسه: يا إلهي كم أنا إنسان أحمق! فظهور زوجتي بهذا الشكل لم يكن له أي علاقة في المرض، فقد كانت زوجتي إنسانه طيبة ولطيفة، ولكنها مع الوقت قد ذبلت وهزلت، وبالفعل لم تكن تلك ذات الزوجة التي تمتلئ بالطاقة والحيوية والنشاط حينما في سن العشرينات، لكن الزوجة في ذلك الوقت كانت إنسانة تدخل في حالة شديدة من الحزن، وكل من يراها يلاحظ عليها ذلك الأمر، فهي لم تعد تلك الشابة الصغيرة المرحة، وفي ذات الليلة قال التاجر لزوجته: ألا تتذكرين يا روزوتشا كم كنت سعيدة وفرحة حينما كنت أرجع من ترحالي في الزمن القديم.
ثم أكمل بقوله: كنتِ سرعان ما تركضي من أجل استقبالي وتركني نفسك أمامي وأنتِ تنتظرين مني أن أقوم بالنظر إليكِ، فقد كنت في تلك الفترة تشبهين جرو صغير مرح ولطيف، ألم تتمكني من فعل مثل تلك الأمور في الوقت الحاضر، وما بك لم تعودي لتقومي بمثل تلك الحركات والأمور؟ لما في هذه المرة لم أراكِ كما اعتدت عليك؟ ألم تلاحظي أنني قد رجعت وأننا سوف نقضي فصل الشتاء بأكمله معاً؟ في تلك اللحظة على الفور أسرعت إلى إحدى الغرفة المجاورة كي تختبئ هناك وتغلق على نفسها، أما زوجها فلم يلحق بها ويعاتبها على ذلك التصرف؛ وذلك لأنه لا يريد أن يراها تبكي، فإن رآها في تلك الحالة يتحطم قلبه.
وهنا أشار التاجر إلى أن ذلك الأمر كان محزن بالنسبة إليه، إذ أنها حين تبتسم كانت تعيد له ذكريات الماضي، وأنه يتمنى ولو أنها تعود مرة واحدة تسعد وتمرح كما كانت في الماضي، فلم يكن يريد هذا الأمر من أجله نفسه، بل كان يريد ذلك من أجلها هي، فقد كان يقول: إنّ قطتي أصبحت عجوز مريضة، يا له من وجع مؤلم، فكم يريد كل شخص أن يقوم بتغيير في حياة من يحبهم، وكم يذوق الألم حينما يشاهدهم هكذا يشيخون حتى الاختفاء، إذ كان يشير إلى أنه يا له من كنز مليء بالطيبة والحنية نخبأه في أعماق قلوبنا، ولا نتمكن من إخراجه بأي طريقة كانت، وكم للحياة من جوانب مؤلمة للغاية.