قصة قصيدة “أأفشي إليكم بعض ما قد يهيجني”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “أأفشي إليكم بعض ما قد يهيجني” فيروى بأنّه كان هنالك فتاة من بني خزاعة، وكانت هذه الفتاة متعبدة ورعة، وكانت أمها أكثر عبادة منها، وكانت هذه الفتاة وأمها مشهورتان في حيهما بالعبادة، وكانتا قليلتي المخالطة للناس، وكان أحد رجال الطائف يبعث إليهما ما يحتاجان من أغراض، وفي يوم كان هذا الرجل مريض، فقام بإرسال ابنه بدلًا منه، فقرع الصبي الباب، فسألته الأم وقالت: من بالباب، فقال لها: ابن فلان، ففتحت له وأدخلته، وكانت ابنتها في غرفتها، فخرجت ظنًا منها أنّ الذي أتاهم أحد نساء الحي، ولم تعلم بأنّه الفتى، وعندما رأته أسرعت في الخروج، ولكنّه كان قد رآها، وكانت هذه الفتاة جميلة، فوقع في حبها، وخرج من بيتهم، لا يعرف أي طريق يسلك، وعندما وصل إلى أبيه، لم يخبره بما حصل معه.
بدأ جسم الفتى بالذوبان، وهزل جسمه، وتغير عما كان، وأصبح كثير البقاء لوحده، وظنّ الناس أنّه يبقى وحده ويمضي وقته في العبادة، وفي يوم سقط الفتى على فراشه، وعندما رآه والده، أحضر له الأطباء، وكل طبيب يصف له دواء، وبقي الغلام على حاله، وهو ساكت لا يتكلم، وعندما طال مرضه قام والده بدعوة أصدقاء ابنه من الحي، وقال لهم: اجلسوا معه، واسألوه عما فيه، لعله يخبركم ما لم يخبرنا به، ففعلوا، ولكنّه لم يقل لهم شيء، وقال لهم: والله ليس عندي مرض أعرفه، فأخبركم به.
وعندما طال مرض الفتى، دعا إحدى نساء بيته، وقال لها: سوف أخبرك بسبب مافي من علة، ولكنّي أريدك أن تعديني إن قلته لك ألّا تخبريه لأحد، فقالت له: قل، فو الله لأكتمن أمرك ما بقي لي من أيام الدنيا، فأخبرها الفتى بقصته، فقالت له: يا بني لما لم تخبرنا؟، ومن ثم قالت له: يا بني سوف آتيك بما يفرح قلبك.
فقامت المرأة من عنده، ولبست ثوبها، وتوجهت نحو بيت الفتاة، ودخلت عليهم وسلمت على أم الفتاة، وجلست معها ساعة وهي تحدثها، وأخبرتها عن حال الفتى، فسألتها الأم عن حاله، فردت عليها وقالت: لقد رأيت الأوجاع من قبل، ولكنّي لم أر مثل وجعه من قبل، وإنّ وجعه يزداد كل يوم، وهو صابر لا يشتكي، فقالت أمها: أفلا تحضرون له الأطباء؟، فقالت لها: والله لم نترك طبيبًا في المدينة لم نحضره له، ولم يستطع أي منهم أن يعالجه.
ثم دخلت إلى الفتاة، وقد كانت تتعبد، فسلمت عليها، وتكلمت معها ساعة، فعلمت الفتاة أنّ ما في الفتى بسببها، فقالت لها المرأة: يا بنيتي لقد أفنيتي شبابك على هذا الحال، فقالت لها الفتاة: وهل هنالك أفضل من العبادة، فقالت لها المرأة: لا والله، ولكن من في عمرك تفرح في دنياها ببعض ممّا أحله الله تعالى، من دون أن تتركي عبادة الله، وطاعته، فتجمعين بذلك بين الدارين، فقالت لها الفتاة: وهل هذه الدنيا دار بقاء لا تنقطع ولا تفنى، أم هذه الدار دار فناء وتلك الدار دار بقاء ومكافأة، ويجب أن نعمل من أجلها، فقالت لها المرأة: إنّ الدنيا فانية، وليست باقية ولا دائمة لأحد منا، ولكنّ الله تعالى جعل فيها ساعات تنالين فيها ما حُلّ لك، فقالت لها الفتاة صدقتي والله يا عمتي، ثم قالت: أخبريني ما عندك، وأوضحي لي ما في نفسك، فإن كان ما عندك سؤال جاوبتك، وإن كان حظًا تبعتك، وإن كان بعيدًا عن الله تعالى وعظتك، فأخبرتها المرأة بقصة الفتى، وما به من ألم ووجع بسببها، فقالت لها الفتاة: لقد ظننت ذلك، ثم قالت لها: فلتبلغيه عني أنّي قد وهبت نفسي لرب العباد، وليس لي بعد أن وهبته نفسي للعودة من سبيل، فادع ربك أن يغفر لك.
فقامت المرأة من عندها وذهبت إلى الفتى وأخبرته بما قالت الفتاة، فبكى بكاءً شديدًا، فقالت له: والله يا بني لم أر في حياتي فتاة خوف الله في صدرها، كما هي هذه الفتاة، عليك أن تعمل بما نصحتك به، فإنّها والله قد أحسنت النصيحة، فلا تلق في نفسك إلى التهلكة، فتندم حيث لا يفيد الندم، فجعل الفتى يبكي ويقول: كيف لي إلى ذلك من سبيل؟، ومن ثم ساءت حالته، وذهب عقله، فحبسه أهله في غرفة، وربطوه، وكان إذا أفلت، خرج من البيت، وكان صبية الحي يمشون وراءه ويقولون له: مت عشقًا، فينشد قائلًا:
أَأُفشي إلَيكم بعضَ ما قد يَهيجُني
أم الصبرُ أوْلى بالفتى عندما يَلقَى
أَأُوعَدُ وعداً ما لَه، الدهرَ، آخِرٌ
وَأُومَرُ بالتّقوَى، ومَن ليَ بالتّقوَى
سلامٌ على مَن لا أُسَمّيهِ باسمِه
وَلوْ صرْتُ مثلَ الطيرِ في قفصٍ يُلقى
ألا أيّها الصّبيَانُ لو ذُقتمُ الهوَى
لأيْقَنتُمُ أنّي مُحَدّثُكم حَقّاً
أحِبّكم مِن حُبّها، وأراكُمُ
تقولون لي: مُتْ يا شجاعُ بها عِشقا
فلَم تُنصِفوني، لا، ولا هيَ أنصَفَتْ
فرِفقاً رُوَيداً، وَيحَكم بالفتى رِفْقَاً
وعندما علم أهله أنّ ما فيه بسبب العشق، فأخذوا يسألوه عن أمره، ولم يكن يجيبهم، ولم تخبر المرأة أحدًا بقصته، فقاموا بحبسه في البيت حتى مات.