قصيدة “أطأ التراب وأنت رهن حفيرة”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “أطأ التراب، وأنت رهن حفيرة” فيروى بأنّ عبيد النعالي وهو غلام أبو الهذيل في يوم كان منصرفًا من جنازة في مسجد الرضى وقت الظهيرة، وعندما دخل سكك البصرة اشتد عليه الحرّ، فبحث عن مكان ظليل يجلس تحته، فوجد باب بيت فيه بعض من الظل، فجلس تحته، وبينما هو جالس سمع أحدهم يترنم من داخل البيت، فدق على الباب وطلب الماء، وإذ بفتى ظاهر عليه أثر المرض والسقم، فأدخله الفتى إلى البيت، وأجلسه في غرفة من غرفه، وعندما جلس عبيد النعالي، دخل عليه الفتى ومعه جارية، وكان معها وعاء وماء ومنديل، فغسل قدميه، وجلس من بعدها يتحدث إلى الغلام، وبعد برهة دخلت جارية أخرى ومعها وعاء وماء، فقال لها: لقد غسلت يداي، فقالت له: لا، بل غسلت قدميك، فاغسل يديك للغداء، فغسل يديه، فأقبل الغلام وجلس معه يؤنسه حتى أتى الغداء، فتناولا الطعام، وكان الفتى يأكل وفي وجهه علامات الحزن، وعندما أكملوا تناول الطعام، أحضرت الجارية الشراب، فجلسوا يشربون، وبينما هم كذلك بدأ الغلام بالبكاء، وقال لعبيد: يا أخي، إنّ لي صديقًا، فقم نذهب إلى مجلسه، فقال له عبيد: هيا بنا.
فخرجوا من البيت وكان الغلام يتقدم عبيد في المسير، حتى وصلوا إلى مجلس، وعندما دخلوه تفاجأ عبيد بقبر بوسط المجلس، وعليه رداء أخضر، ومن حول القبر رمل مصبوب، فجلس الغلام على الرمل، ووضع لعبيد مصلى، ليجلس عليه، فقال له عبيد: والله لا أجلس إلّا كما تجلس، فجلسوا وبدأ الغلام بترديد العبرات، ومن بعدها شربوا، وأخذ الغلام ينشد:
أطَأُ الترابَ، وأنتَ رهنُ حَفيرَة
هالتْ يدايَ على صَداك ترابَها
إنّي لأعذر من مشى إن لم أطَأ
بجفونِ عيني ما حَيِيتَ جِنَابها
لو أنّ جَمرَ جَوَانِحي مُتَلَبِّسٌ
بالنّارِ أطْفأ حرَّهَا وأذابَهَا
ومن ثم ارتمى الغلام على القبر مغشيًا عليه، فجاءه أحد الغلمان بماء وصبه على وجهه، وعندها أفاق وبدأ ينشد قائلًا:
اليوْمَ ثابَ ليَ السرُورُ لأنّني
أيقَنتُ أنّي عاجلاً بكَ لاحِقُ
فَغَداً أُقاسِمُكَ البِلى، وَيسوقُني
طوْعاً إلَيكَ، من المَنِيّةِ، سائِقُ
ثم قال لعبيد: قد وجب حقي عليك، وعليك أن تحضر جنازتي في الغد، فقال له عبيد: أطال الله بعمرك، فقال له الغلام: إني ميت لامحالة، فدعا له عبيد، فقال له الغلام: لقد عققتني، ألّا قلت:
جاور خليلَك مُسعِداً في رَمْسِه
كَيما يَنالُكَ في البِلى ما نالَه
فانصرف عنه عبيد، وفي اليوم التالي ذهب إلى بيته فوجده ميتًا.