قصة قصيدة “ألا يا غراب البين لونك شاحب”:
أمّا عن مناسبة قصيدة “ألا يا غراب البين لونك شاحب” فيروى بأنّ بعض البصريين في يوم ضجروا من جلوسهم في المنزل، وقرروا الخروج إلى البساتين، فخرجوا إلى بستان قريب منهم، وبينما هم يمشون في ذلك البستان سمعوا صوتًا، فسألوا البستاني عنه، فقال لهم بأنّ هذا الصوت لأربع فتيات، وأنّ لهذه الفتيات قصة، فقال له أحدهم: وما هي قصتهم؟، فقال له: قم حتى أريك أنت لوحدك، فأقسم الرجل على أصحابه أن لا يتبعوه، وتوجه مع البستاني إلى موقع يطلّ على بيتهنّ، فرأى أربع فتيات، وكنّ أجمل ما يكون من النساء، يحيط بهم الخدم، وحولهنّ ما لذّ من طعام وشراب، وبينما هنّ جالسات، أحضر أحد الخدم خمسة أجزاء من القرآن، وأعطى كل واحدة منهنّ جزءًا، ووضع الخامس بينهنّ، فبدأن بالقراءة، ومن ثم أخذن الجزء الخامس، وقرأت كل واحدة منهنّ ربعه، وعندما انتهين من قراءته، أخرجت إحداهنّ صورة ووضعتها بينهنّ، وبدأن بالبكاء، وبينما هنّ يبكين قالت واحدة منهنّ:
خلسَ الزّمانُ أعَزَّ مختَلَسِ
ويَدُ الزّمَانِ كثيرَةُ الخَلَسِ
للهِ هالكةٌ فُجِعْتُ بِهَا
ما كانَ أبعَدَها من الدّنَسِ
أتَتِ البِشَارَةُ والنّعيُّ بِهَا
يَا قُرْبَ مأتَمِهَا من العُرُسِ
ومن ثم قالت الثانية:
ذَهَبَ الزّمَانُ بِأُنْسِ نفسي عَنوَةً
وبَقيتُ فَرْداً ليسَ لي من مُؤنِسِ
أودى بمَلْكَ ولَوْ تُفادى نفسُهَا
لَفَدَيتُها ممن أُعِزّ بِأنْفُسِ
ظَلّتْ تُكَلّمني كَلاماً مُطْعِماً
لم أسترِبْ فيه بشيءٍ مُؤيِسِ
حتى إذا فَترَ اللّسانُ وأصْبَحَتْ
للمَوْتِ قَد ذَبُلَتْ ذُبولَ النَّرْجِسِ
وتَسَهّلَتْ مِنْهَا مَحَاسِنُ وَجْهِهَا
وَعَلا الأنِينُ تحثّهُ بِتَنَفّسِ
جَعَلَ الرّجاءُ مَطامِعي يأساً كمَا
قَطَعَ الرّجاءُ صَحِيفَةَ المُتَلَمّسِ
ومن ثم قالت الثالثة:
جَرَتْ على عَهدِها الليالي
وَأُحْدِثَتْ بَعدَها أُمورُ
فاعتضْتُ باليأس منكِ صَبراً
فاعتَدَلَ اليأسُ والسرُورُ
فَلَستُ أرجو، ولستُ أخشى
ما أحدَثَتْ بَعدكِ الدهورُ
فَليبلُغِ الدهرُ في مَساتي
فَما عَسى جُهْدُه يَضِيرُ.
ومن ثم قالت الرابعة:
عِلْقٌ نَفِيسٌ من الدنيَا فُجِعتُ به
أفضى إلَيه الرَّدى في حَوْمةِ القَدَرِ.
وَيحَ المَنايا أمَا تَنْفَكّ أسهُمُها
معَلَّقاتٍ بِصَدرِ القوْسِ والوَتَرِ.
يَبلى الجديدان، والأيّام بالِيَةٌ
والدهرُ يَبلى، وتَبلى جِدّةُ الحَجَرِ.
ومن ثم أنشدن بصوت واحد:
كنّا من المَساعِده
نحيا بنفسٍ واحده.
فمات نِصْفُ نفسي
حينَ ثَوَى في الرَّمسِ.
فَما بَقائي بعدَه
وشَطرُ نفسي عندَه.
فَهَلْ سَمِعتُم قَبلي
في مَنْ مَضى بِمِثلي.
عاشَ بِنِصْفِ روحِ
في بَدَنٍ صَحِيحِ.
وعندما انتهين، قلن قامت إحداهن بالطلب من الخدم بأن يحضروا قفصًا، وحينما أحضره، كان فيه أربعة غربان، ووضعه بينهنّ، فتناولت كل واحدة منهنّ عودًا، وأخذن ينشدن:
لَعَمري! لقد صاحَ الغُرَابُ بِبَنيهِم
فأوجَعَ قلبي بالحديثِ الذي يُبدي
فقلتُ له: أفصحتَ لا طِرْتَ بعدها
بِريشٍ، فهل للقَلبِ ويحَكَ من رَدّ
ثم أخذت إحداهنّ أحد الغربان ونتفت عنه ريشه، حتى أصبح من دون ريش، ثم أخذت تضربه، حتى مات، وأنشدت:
أشاقَكَ، والليلُ ملقي الجِرَانِ
غُرَابٌ يَنوحُ على غُصْنِ بانِ
أحصُّ الجَناحِ، شديدُ الصّيَاحِ
يَبكي بِعَيْنَينِ ما تهملانِ
وفي نَعَبَاتِ الغُرَابِ اغْترَابٌ
وفي البانِ بَينٌ بعيدُ التّداني
ومن ثم أخذت الثانية الغراب الثاني وربطت قدميه بخيط، وباعدت بينهما، ثم قتلته، وأنشدت:
ألا يا غُرَابَ البين لَونُكَ شاحِبٌ
وأنْتَ بِلَوْعاتِ الفِرَاقِ جَديرُ
فَبَيّنْ لَنَا ما قلتَ، إذ أنتَ واقِعٌ
وبَيّن لَنَا ما قُلتَ حينَ تَطيرُ
فإنْ يكُ حقّاً ما تَقولُ، فَأصْبَحْتْ
هُمومُكَ شَتّى، والجَنَاحُ كَسيرُ
ولا زِلتَ مَكسوراً عديماً لِنَاصرٍ
كَما لَيسَ لي من ظالميّ نَصِيرُ
ومن ثم أمسكت الثالثة بالغراب الثالث، وقالت أمّا الدعوة فقد استجيبت، ومن ثم قتلته، وأنشدت:
عَشِيّةَ ما لي حيلَةٌ غيرَ أنّني
بلَقطِ الحصى، والخطِّ في الدّارِ مولَعُ
أخُطُّ وأمحو كلّ ما قَد خَطَطتُه
بدمعيَ والغِرْبانُ في الدارِ وُقَّعُ
وأمسكت الرابعة بالغراب الرابع، وسألت البقية، قائلة: أمّا هذا فكيف أقتله؟، فقالت لها إحداهنّ: علقي برأسه شيئًا ثقيلًا، ومن ثم شديه حتى يموت، ففعلت، وبعد أن انتهوا من ذلك دعون الخدم لإحضار الغداء، فأكلن، وشربن، وبدأت إحداهنّ بالإنشاد قائلة:
أبكى فِرَاقَكُمُ عَيني فأرّقَهَا
إنّ المُحِبّ على الأحبابِ بكّاءُ
ما زالَ يعدو عَلَيهِم ريبُ دهرِهمُ
حتى تَفَانَوْا، وريبُ الدهرِ عَدّاءُ
ثم أنشدت الثانية:
أما والذي أبكى وأضْحَكَ، والذي
أمَاتَ وأحيا، والذي أمرُهُ الأمرُ
لقد تركَتْني أحسُدُ الوَحشَ أن أرَى
ألِيفَينِ منها لا يرُوعُهُما الذّعرُ
ثم أنشدت الثالثة:
سأبكي على ما فاتَ منكِ صَبابَةً
وَأندُبُ أيّامَ الأماني الذّوَاهِبِ
أحينَ دَنَا مَن كنتُ أرْجو دنُوَّه
رَمَتني عُيونُ الناسِ من كل جانبِ
فأصْبَحتُ مَرْحوماً، وكنتُ مُحَسَّداً
فَصَبراً على مَكُروهِ مرِّ العَوَاقِبِ
ثم أنشدت الرابعة:
سأُفني بِكَ الأيّامَ حتى يَسُرّني
بك الدهرُ، أو تَفنى حياتي معَ الدهرِ
عَزَاءً وصبراً! أسعِداني على الهوَى
وأحمَدُ مَا جَرّبتُ عاقبَةُ الصّبرِ
ثم أخذت إحداهن الصورة، وطوتها ووضعتها بين ملابسها، فأظهر الرجل نفسه، وقال: لقد ظلمتن الغراب، فقالت له إحداهنّ: لو أنّك رددت السلام، لأخبرناك بقصة الغراب، فقال الرجل: إنما أخبركن بالحق، لقد ظلمتنّ الغراب، فقالت إحداهنّ: وكيف ذلك؟، فقال الرجل: كما قال الشاعر:
نَعَبَ الغُرَابُ بِرُؤيَةِ الأحبَابِ
فلذاك صِرْتُ أُحِبّ كُلّ غُرَابِ
فقالت إحداهنّ: إنّما قال: بفرقة الأحباب، فقال الرجل: بحق صاحب الصورة أن تخبروني بخبركنّ، فقالت إحداهنّ: لقد كنا صاحبات مجتمعات على الألفة، لا نأكل ولا نشرب إلّا مع بعضنا، وفي يوم فرق بين رفيقتنا وبين زوجها، فأصبحت تقتل كل غراب، وأصبحنا نفعل كما كانت هي تفعل، بعد أن ماتت.
فغادر الرجل من عندهنّ، وتوجه إلى أصحابه وأخبرهم بما حصل معه، ومن ثم بحث عن هؤلاء النسوة، فلم يجد لهم خبرًا.