ما لا تعرف عن مناسبة قصيدة “تروح سالما يا شبه ليلى”:
وأمّا عن مناسبة قصيدة ” تُرَوَّح سالِماً يا شِبهَ لَيلى ” فيروى بأن كثير بن عبد الرحمن قد دخل إلى مجلس عبد الملك بن مروان، وبعد أن جلس، سأله عبد الملك بن مروان وقال له: هل يوجد من هو أعشق منك؟، فقال له: نعم يا أمير المؤمنين، فقال له الخليفة: كيف يكون ذلك وأنت القائل:
ركبان مكة والذين أراهم
يبلون من حر الفؤاد همودا.
لو يسمعون كما سمعت كلامها
خروا لعزة ركعا وسجودا.
الله يعلم لو اردت زيادة
في حب عزة ما وجدت مزيدا.
فقال كثير بن عبد الرحمن للخليفة: أخبرك يا أمير المومنين من هو، فبينما كنت سائرًا في البوادي في ساعة متأخرة من الليل، وقد كان يوم شديد الحر، فخرج علي رجل فجأة، ففزعت منه، ثم ملت إليه، وسألته: إنس أنت أم جني، فقال لي: بل إنسي، فقلت له: مالذي أخرجك في مثل هذا الوقت إلى هذه البرية، فقال لي: خرجت أصطاد ظبيًا، وقد كنت جائعًا وقتها، فقلت له: إن بقيت معك هل تجعل لي نصيبًا فيه، فقال لي: نعم، فأقمت معه حتى اصطاد ظبية من أحسن الظباء، ثم مسك بقرنها وأخذ ينظر إليها، ويقول لها:
أَيا شِبهَ لَيلى لا تُراعي فَإِنَّني
لَكِ اليَومَ مِن بَينِ الوُحوشِ صَديقُ
وَيا شِبهَ لَيلى أَقصِرِ الخِطوَ إِنَّني
بِقُربِكِ إِن ساعَفتِني لَخَليقُ
وَيا شِبهَ لَيلى رُدَّ قَلبي فَإِنَّهُ
لَهُ خَفَقانٌ دائِمٌ وَبُروقُ
ثم أطلقها وجعل ينظرعليها ويقول:
أقول وقد أطلقتها من وثاقها
فأنت لليلى إن شكرتِ عــتيقُ
فعيناك عيناها وجيدك جيدها
سوى أن عظم الساق منكِ دقيقُ
وكادت بلاد الله يا أم مالك
بما رَحبت منكم عــليَّ تضيقُ
ثم وقفت أيّها الخليفة لساعة، فعلقت أخرى بشركه، ففعل بها ما فعل بالأولى، ثم أنشد ما أنشده عندما أمسك بالظبية الأولى، فتعجبت أيّها الخليفة من صنعه، وبعد برهة من الوقت علقت ظبية ثالثة، فأخذ يبكي وينشد:
تُرَوَّح سالِماً يا شِبهَ لَيلى
قَريرَ العَينِ وَاِستَطِبِ البُقولا
فَلَيلى أَنقَذَتكَ مِنَ المَنايا
وَفَكَّت عَن قَوائِمِكَ الكُبولا
فغاظني مافعل غيظًا شديدًا، ثم مكثنا ساعة، فعلقت ظبية أخرى، فوثبت إليها وكسرت رجلها، طمعًا في لحمها فبكى بكائًا شديدًا، وقال لي: ويحك، ما دعاك إلى فعل ما فعلته، وقام وأطفأ النار، وقال لي: أفسدت حالي، وغادر.
فقال له عبد الملك بن مروان: أين أنت من قولك حينما قلت:
أَيا عَزَّ لَو أَشكو الَّذي قَد أَصابَني
إِلى مَيِّتٍ في قَبرِهِ لَبَكى لِيا
أَيا عَزَّ لَو أَشكو الَّذي قَد أَصابَني
إِلى راهِبٍ في ديرِهِ لَرَثى لِيا
أَيا عَزَّ لَو أَشكو الَّذي قَد أَصابَني
إِلى جَبَلٍ صَعبِ الذُرى لا نحَنى لِيا
وَيا عَزَّ لَو أَشكو الَّذي قَد أَصابَني
إِلى مُوثَقٍ في قَيدِهِ لَعَدا لِيا
فردّ عليه كثير عزة وقال له: إنّه أشعر مني يا أمير المؤمنين، فقد قال:
إِنَّ الظِباءَ الَّتي في الدورِ تُعجِبُني
تِلكَ الظِباءُ الَّتي لا تَأكُلُ الشَجَرا
لَهُنَّ أَعناقُ غِزلانٍ وَأَعيُنُها
وَهُنَّ أَحسَنُ مِن أَبدانِها صُوَرا
وَلي فُؤادٌ يَكادُ الشَوقُ يَصدَعُهُ
إِذا تَذَكَّرَ مِن مَكنونِهِ الذِكَرا
كانَت كَدُرَّةِ بَحرٍ غاصَ غائِصُها
فَأَسلَمَتها يَداهُ بَعدَ ما قَدَرا
فقال له أمير المؤمنين: ومن هو هذا، فقال كثير: هذا الذي قال في قصيدته:
وكنت كذباح العصافير ذائبا
وعيناه من وجد عليهن تهمل
فلا تنظري ليلى إلى العين وانظري
إلى الكف ماذا بالعصافير تعمل
فردّ عليه عبد الملك بن مروان وقال له: هل هو مجنون ليلى قيس بن الملوح، فقال له: نعم يا مولاي، فقال له: فلتزدني من شعره، فقال كثير: لقد قال في ليلى:
أَحِنُّ إِلى أَرضِ الحِجازِ وَحاجَتي
خِيامٌ بِنَجدٍ دونَها الطَرفُ يَقصُرُ
وَما نَظَري مِن نَحوِ نَجدٍ بِنافِعي
أَجَل لا وَلَكِنّي عَلى ذاكَ أَنظُرُ
أَفي كُلِّ يَومٍ عَبرَةٌ ثُمَّ نَظرَةٌ
لَعَينِكَ يَجري ماؤُها يَتَحَدَّرُ
مَتى يَستَريحُ القَلبُ إِمّا مُجاوِرٌ
حَزينٌ وَإِمّا نازِحٌ يَتَذَكَّرُ