تعد معلقة الأعشى “ودع هريرة إن الركب مرتحل” واحدة من أبرز المعلقات العشر في الشعر العربي الجاهلي. وقد حظيت هذه القصيدة بشهرة واسعة وأصبحت محل دراسة وتحليل للنقاد والأدباء على مر العصور. تتميز القصيدة بجماليات لغوية عالية وبراعة في استخدام الصور الشعرية، بالإضافة إلى عمق المعاني التي تحملها. في هذا المقال، سنتناول تحليلًا دقيقًا لهذه المعلقة، محاولين استكشاف دلالاتها المتعددة وأبعادها الفنية.
نبذه عن الشاعر الأعشى
هو ميمون بن قيس بن جندل، وهو من بني قيس بن ثعلبة الوائلي، ولد وتوفي في قرية تدعى منفوحة بالقرب من الرياض، يكنى بأبي البصير، معروف بأعشى قيس، وقيل فيه أعشى بكر بن وائل، وأيضًا الأعشى الكبير، وهو من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي، وأحد شعراء المعلقات.
كان كثير الجلوس مع ملوك العرب والفرس، قصائده كثيرة، يسلك فيها كل المسالك، ولم يعرف من قبله من هو أكثر شعرًا منه، وكانت قصائده مليئة بالألفاظ الفارسية، وذلك بسبب كثرة جلوسه مع ملوكهم، أدرك الإسلام ولم يسلم، وقد لقب بالأعشى بسبب ضعف بصره، وقد فقده في أواخر عمره.
قصة قصيدة ” ودع هريرة إن الركب مرتحل “
وأمّا عن مناسبة قصيدة ” ودع هريرة إنّ الركب مرتحل ” فيروى بأن الأعشى وبينما كان في طريقه إلى اليمن وذلك لكي يزور قيس بن معد يكرب، أظلمت عليه وبدأ المطر بالهطول وكان غزيرًا، فبدأ بالبحث عن مكان يحتمي فيه عن المطر ويمضي فيه ليله حتى يأتي الصباح.
وبينما كان الأعشى يبحث عن مكان يحتمي فيه رأى من بعيد بيتًا من الشعر، فاتجه نحوه، وعندما وصل وجد فيه شيخ كبير وجهه مشوَّه، لحيته بيضاء كثيفة، فاستأذنه الدخول، فقام الشيخ وأدخله إلى الخيمة، وبعدما جلسوا سأله الشيخ، وقال له: إلى أين تتجه؟ فقال له الأعشى: أنا الأعشى، وأنا في طريقي إلى قيس بن معد يكرب في اليمن، فقال له الشيخ: هل أنت الذي مدحته بقصيدة؟ فرد عليه الأعشى وقال: نعم، فقال له الشيخ: هل تريد أن تقولها لي، فقال الأعشى:
رَحَلَت سُمَيَّةُ غُدوَةً أَجمالَها
غَضبى عَلَيكَ فَما تَقولُ بَدا لَها
هَذا النَهارُ بَدا لَها مِن هَمِّها
ما بالُها بِاللَيلِ زالَ زَوالُها
سَفَهاً وَما تَدري سُمَيَّةُ وَيحَها
أَن رُبَّ غانِيَةٍ صَرَمتُ وِصالَها
وَمَصابِ غادِيَةٍ كَأَنَّ تِجارَها
نَشَرَت عَلَيهِ بُرودَها وَرِحالَها
وعندما أنهى الأعشى قصيدته طلب منه الشيخ أن ينشده قصيدة أخرى، فأنشده الأعشى قائلًا:
وَدِّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ
وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ
غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها
تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ
كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها
مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ
تَسمَعُ لِلحَليِ وَسواساً إِذا اِنصَرَفَت
كَما اِستَعانَ بِريحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ
وعندما أنهى قصيدته، سأله الشيخ وقال: من هي سمية ومن هي هريرة؟
فقال له الأعشى : لا أعلم ولكنّها مجرد أسماء أتت على خاطري فقلتها.
فقال له الشيخ : ألا تعلم من هما سُمية و هريرة ؟
فقال له الأعشى : لا.
فنادى الشيخ قائلًا: فلتخرجا يا سُمية و يا هريرة.
فخرجتا بنتان طولهما طول كل منهما لا يتعدى الخمسة أشبار فارتجف الأعشى من الخوف وقال للشيخ: من أنت ؟
فرد عليه الشيخ قائلًا: أنا هاجسك من الجنّ وأنا الذي ألقي الشعر على لسانك، واسمي مسحل وهؤلاء ابنتاي هريرة وسمية!
شرح أبيات رحلت سمية غدوة أجمالها
1. رحلت سمية غدوة أجمالها:
- يبدأ الأعشى القصيدة بوصف رحيل حبيبته “سمية”.
- يُشير إلى أنّها رحلت في الصباح الباكر، مع جمالها الأخّاذ.
2. غضبي عليك فما تقول بدا لها:
- يُخبر الأعشى أنّ “سمية” غضبت عليه، ولا يدري سبب غضبها.
- يُشير إلى أنّها غضبت دون أن تُعطي له فرصةً للتفسير أو الاعتذار.
3. هذا النهار بدا لها من همها:
- يُعبّر الأعشى عن شدة حزن “سمية” وغمّها.
- يُشير إلى أنّ نهارها قد بدا لها ثقيلًا وكئيبًا بسبب همّها.
4. ما بالها بالليل زال زوالها:
- يتساءل الأعشى عن سبب زوال حزن “سمية” في الليل.
- يُشير إلى أنّها قد نسيت همّها في الليل، واستمتعت بالنوم أو السهر.
5. سفهاً وما تدري سمية ويا لها:
- يُوبّخ الأعشى “سمية” على سفهها وعدم تفكيرها.
- يُشير إلى أنّها لا تدري أنّ هناك الكثير من النساء اللواتي هجرهنّ، وأنّ هجرانها ليس بالأمر الجديد.
6. أن رب غانية صرمت وصالها:
- يُؤكد الأعشى على قدرته على هجران النساء.
- يُشير إلى أنّه قد هجر العديد من النساء الجميلات في الماضي.
7. ومصاب غادية كأن تجارها:
- يُشبّه الأعشى “سمية” بمسافرٍ في الصباح الباكر.
- يُشير إلى أنّها تحمل معها همّها وغضبها، كما يحمل المسافر بضاعته.
8. نشرت عليه برودها ورحالها:
- يُكمل الأعشى تشبيهه “سمية” بالمسافر.
- يُشير إلى أنّها قد نشرت بضاعتها ورحلت، تاركةً إياه حزينًا ومهمومًا.
شرح أبيات ودع هريرة
1. ودّع هُرَيرَةَ إِنَّ الرَكبَ مُرتَحِلُ:
- يبدأ الأعشى القصيدة بمخاطبة نفسه ودعوة حبيبته “هريرة” للوداع.
- يُشير إلى أنّ الركب على وشك الرحيل، ولا بدّ من وداعها.
2. وَهَل تُطيقُ وَداعاً أَيُّها الرَجُلُ:
- يتساءل الأعشى عن قدرته على تحمل وداع “هريرة”.
- يُشير إلى أنّ وداعها سيكون صعبًا عليه، وأنّه قد لا يطيق تحمّل مشاعره الحزينة.
3. غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها:
- يصف الأعشى جمال “هريرة”.
- يُشير إلى أنّها بيضاء الوجه، وطويلة الشعر، وجميلة الحواجب.
4. تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ:
- يُشبّه الأعشى مشية “هريرة” بمِشية الغزال في الوحل.
- يُشير إلى أنّ مشيتها رشيقة وهادئة، وأنّها تُحرّك قدميها بخطوات خفيفة.
5. كَأَنَّ مِشيَتَها مِن بَيتِ جارَتِها:
- يُشبّه الأعشى مشية “هريرة” بسحابةٍ عابرة.
- يُشير إلى أنّها تتحرك بخطوات سريعة وسلسة، دون توقف أو تردد.
6. مَرُّ السَحابَةِ لا رَيثٌ وَلا عَجَلُ:
- يُكمل الأعشى تشبيهه مشية “هريرة” بالسحابة.
- يُشير إلى أنّها تمشي بخطوات منتظمة، دون سرعة أو بطء.
7. تَسمَعُ لِلحَليِ وَسواساً إِذا اِنصَرَفَت:
- يصف الأعشى صوت حليّ “هريرة”.
- يُشير إلى أنّ صوت حليّها يُشبه صوت الريح في أغصان الشجر.
8. كَما اِستَعانَ بِريحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ:
- يُكمل الأعشى وصف صوت حليّ “هريرة”.
- يُشير إلى أنّ صوت حليّها جميل وموسيقي، وأنّه يُضفي على مشيتها المزيد من الجمال.