قصة قصيدة ” مالنا كلنا جو يا رسول “:
وأمّا عن مناسبة قصيدة ” مالنا كلنا جو يا رسول ” فبعدما أصبح أبو الطيب المتنبي ذا شأن عند سيف الدولة الحمداني، وأصاب المجد الذي كان الكل يريده، كرهه الحساد وسعوا لأن يخربوا تلك العلاقة بينه وبين الأمير، فجعلوا بينه وبين أميره في حلب سدًا منيعًا، فحاول أبو الطيب أن يسد هذا السد بمغادرة حلب متجهًا إلى مصر، التي كان وإليها غلام يدعى الإخشيد، فجالسه وأصبح من نديميه لعله يصبح ذا شأن عنده، ولكنّه لم يكن ينال مايريده وعندما ضاق ذرعًا بالوعود الكاذبة غادر مصر في ليلة عيد الأضحى سنة ثلاثمائة وخمسون للهجرة واتجه نحو بلاد فارس، وفي أثناء كل هذا كان كل من المتنبي وسيف الدولة الحمداني ينتظران الفرصة السانحة لكي يعود الود بينهما ويجبر ماكسر، ولكن مطامح أبو الطيب المتنبي وعزة نفس سيف الدولة الحمداني منعت ذلك.
ولقد أدرك أمير حلب أنه أشرف على شاعره الذي طير صيته في الآفاق، فسعى إلى إعادة وصل ما كان انقطع بينه وبين أبي المحسد، فأنفذ إليه ابنه من حلب إلى الكوفة ومعه هديه، وكان ذلك بعد خروجه من مصر، ومفارقته كافورا، فقال يمدحه: ما لنا كلنا جو يا رسول إنّها محاولة رتق فتق اتسع على راقع.
ويعد البيت الأول في هذه القصيدة هو مفتاح القصيدة كاملة، فيتوجب على الرسول الآن أن ينافس من أرسله على قلب الفتاة، وهو في الأصل مبلغًا للرسالة، يجب أن يكون أمينًا مخلصًا فيما ينقل، ممّا يدل على إختلاط الأمر على المتنبي وعلى سيف الدولة الحمداني، فالمتنبي حملته عزة نفسه على مغادرة حلب بعدما يأس من سيف الدولة، والأمير دفعه استماعه إلى الوشاة إلى قطع حبال الود بينه وبين المتنبي.
لقد عظّم عند المتنبي شأن من إختاره كرسول، فزاد ذلك من مراره، ولم يعد قادرًا على إخراج الكلام من فاه، فقد آلمه عشقه لهذه الفتاة ونال منه كل مايمكن أن ينال، فظهر عليه علاماته ودلائله، وأمّا رسوله فكان يدعي أنّها قد تملكت منه كل ما يتملك وقد ظهر أثر ذلك الحب على الرسول، ولكن الرسول قام بخيانة الأمانة ولم يكن وفيًا، فأصبح يكذب على المتنبي بما ردت عليه الفتاة، وقال له بأنّها ليست مشتاقة له، على الرّغم من ردّها بأنّها كانت مشتاقة له، فقد أراد الرسول أن يفسد العلاقة بين أبو الطيب ومحبوبته، وقال أبو الطيب في ذلك:
مالَنا كُلُّنا جَوٍ يا رَسولُ
أَنا أَهوى وَقَلبُكَ المَتبولُ
كُلَّما عادَ مَن بَعَثتُ إِلَيها
غارَ مِنّي وَخانَ فيما يَقولُ
أَفسَدَت بَينَنا الأَماناتِ عَيناها
وَخانَت قُلوبَهُنَّ العُقولُ
تَشتَكي ما اِشتَكَيتُ مِن أَلَمِ الشَوق
ِإِلَيها وَالشَوقُ حَيثُ النُحولُ
وَإِذا خامَرَ الهَوى قَلبَ صَبٍّ
فَعَلَيهِ لِكُلِّ عَينٍ دَليلُ
زَوِّدينا مِن حُسنِ وَجهَكِ ما دامَ
فَحُسنُ الوُجوهِ حالٌ تَحولُ
وَصِلينا نَصِلكِ في هَذِهِ الدُنــيا
فَإِنَّ المُقامَ فيها قَليلُ
مَن رَآها بِعَينِها شاقَهُ القُطــطانُ
فيها كَما تَشوقُ الحُمولُ
إِن تَريني أَدِمتُ بَعدَ بَياضٍ
فَحَميدٌ مِنَ القَناةِ الذُبولُ
صَحِبَتني عَلى الفَلاةِ فَتاةٌ
عادَةُ اللَونِ عِندَها التَبديلُ