قصة قصيدة - ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب

اقرأ في هذا المقال


ما لا تعرفه عن قصيدة “ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذب”:

قبل ما يقارب الأربعين عامًا كان هنالك ملتقي للشعر العربي في بغداد، وكان كبار الشعراء حاضرون، وبعد أن ألقى الكثير من الشعراء قصائدهم بدأ الجمهور بالتململ والتثاءب، وهموا بالخروج، وفي تلك اللحة وقف شاعر يمني يدعى عبدالله البردوني وتوجه نحو المنصة بهدوء بشعره المجعد، ووجهه مغطى بأثار الجدري، يمسح أنفه بقميصه، وكان أحدهم يقوده إلى المنصة، فاندهش الحضور المحبين للشعر من هذا الرجل وتشوقوا لسماع ما عنده وعندما وقف على المنصة تنحنح وبدأ يقرأ قصيدته التي كانت بعنوان أبو تمام وعروبة اليوم، والتي عارض فيها الشاعر حبيب بن أوس التي يقول فيها:

السيف أصدق إنباءً من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب

فهمّ البردوني بقراءة قصيدته بصوته الجميل وأداء أخاذ وقال:

ما أَصْدَقَ السَّيْفَ! إِنْ لَمْ يُنْضِهِ الكَذِبُ
وَأَكْذَبَ السَّيْفَ إِنْ لَمْ يَصْدُقِ الغَضَبُ

بِيضُ الصَّفَائِحِ أَهْدَى حِينَ تَحْمِلُهَـا
أَيْدٍ إِذَا غَلَبَتْ يَعْلُو بِهَا الغَلَبُ

وَأَقْبَحَ النَّصْرِ نَصْرُ الأَقْوِيَاءِ بِلاَ
فَهْمٍ سِوَى فَهْمِ كَمْ بَاعُوا وَكَمْ كَسَبُوا

أَدْهَى مِنَ الجَهْلِ عِلْمٌ يَطْمَئِنُّ إِلَـى
أَنْصَافِ نَاسٍ طَغَوا بِالعِلْمِ وَاغْتَصَبُوا

قَالُوا : هُمُ البَشَرُ الأَرْقَى وَمَا أَكَلُوا
شَيْئَاً كَمَا أَكَلُوا الإنْسَانَ أَوْ شَرِبُـوا

مَاذَا جَرَى يَـا أَبَا تَمَّـامَ تَسْأَلُنِي؟
عَفْوَاً سَأَرْوِي وَلا تَسْأَلْ وَمَا السَّبَبُ

يَدْمَى السُّـؤَالُ حَيَاءً حِينَ نَسْأَلُُه
كَيْفَ احْتَفَتْ بِالعِدَى حَيْفَا أَوِ النَّقَـبُ

مَنْ ذَا يُلَبِّـي؟ أَمَـا إِصْـرَارُ مُعْتَصِـمٍ؟
كَلاَّ وَأَخْزَى مِنَ الأَفْشِينَ مَـا صُلِبُوا

اليَوْمَ عَادَتْ عُلُوجُ الـرُّومِ فَاتِحَـةً
وَمَوْطِنُ العَرَبِ المَسْلُوبُ وَالسَّلَبُ

مَاذَا فَعَلْنَـا؟ غَضِبْنَا كَالرِّجَالِ وَلَمْ
نصدُق وَقَدْ صَدَقَ التَّنْجِيمُ وَالكُتُبُ

وَقَاتَلَـتْ دُونَنَا الأَبْوَاقُ صَامِدَةً
أَمَّا الرِّجَالُ فَمَاتُوا ثَمَّ أَوْ هَرَبُوا

حُكَّامُنَا إِنْ تَصَدّوا لِلْحِمَى اقْتَحَمُوا
وَإِنْ تَصَدَّى لَهُ المُسْتَعْمِرُ انْسَحَبُوا

فاندهش جميع الحاضرين ووقفوا إعجابًا بقصيدته مصفقين وكان منهم نزار قباني والبياتي وغيرهم من كبار الشعر، فلم يكن أحدهم يتوقع أن يخرج منها العجوز الكفيف أبياتًا بروعة الأبيات التي ألقاها، ثم أنشد مخاطبًا أبا تمام قائلًا:

حبيب وافيتٌ من صنعاء يحملني نسرٌ
وخلف ضلوعي يلهثٌ العرب

فشد الحاضرون ممّا يخرج من فم هذا الشاعر، وبدأوا بالإستجابة لقصائده، وبعدها أخذ ينشد ويقول:

تسعون ألفاً لعمّورية اتَّقَدوا
وللمنجم قالوا : إننا الشُّهُبُ

قيل انتظارِ قطافِ الكرم ما انتظروا
نُضْجَ العناقيد لكنْ قبلَها التهبوا

واليوم تسعون مليوناً وما بلغوا
نضجاً وقد نضجَ الزيتونُ والعِنَبُ

ماذا أحدِّثُ عن صنعاء يا أبتي؟
مليحةٌ عاشقاها السِّلُّ والجرَبُ

ماتتْ بصندوقِ وضَّاحٍ بلا ثمنٍ
ولم يمُتْ في حشاها العشقُ والطرَبُ

وعندما انتهى من إلقاء قصائده ونزل من على المنصة ظل الجمهور يصفقون حتى برهة من الوقت والتف حوله العشرات من الجمهور، وبقي المعجبون بأدائه يتوافدون على غرفته في الفندق، فهو نجم الملتقى بلا منازع.


شارك المقالة: