قصة قصيدة “يا أم عمرو جزاك اللّه مكرمة”
أمّا عن مناسبة قصيدة “يا أم عمرو جزاك اللّه مكرمة” فيروى بأنّ الجاحظ كان قد قرر أن يكتب كتابًا يروي فيه نوادر المعلمين، وفي يوم دخل إلى مدينة، وبينما هو يمشي في أسواق المدينة، وجد معلمًا وكان هذا المعلم ذو هيئة حسنة، فسلم الجاحظ عليه، فرد عليه السلام بأحسن منه، ورحب به، وأجلسه، فجلس الجاحظ عنده، وأخذا يتباحثان في القرآن، فلاحظ الجاحظ أنّ هذا المعلم ماهر في علوم القرآن، ثم أخذ الجاحظ يتحدث معه في الفقهوالنحو، وعلم العقل وأشعار العرب، فوجده كامل الآداب، فقال في نفسه: والله إنّ هذا يقوي عزيمتي على أن أقطع الكتب.
ومن ثم غادر الجاحظ من عند هذا المعلم، ومن بعدها بقي يزوره، وفي يوم زاره، فوجد مكتبه مغلق، ولم يكن موجودًا، فسأل عنه، فقالوا له بأنّه قد مات له ميت، فحزن عليه، وذهب إلى بيته لكي يعزيه، وعندما وصل بيته، طرق عليه الباب، فخرجت إليه جارية، وقالت له: ماذا تريد؟، فقال لها: أريد سيدك، فدخلت الجارية ومن ثم خرجت، وأدخلته، فدخل إلى المعلم ووجده جالسًا، وقال له: أعظم الله أجركم، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، كل نفس ذائقة الموت، فاصبر على ما أنت فيه، ثم قال له: هل المتوفي ولدك؟ فقال له المعلم: لا.
فقال له: أخوك؟، فقال له: لا.
فقال له: والدك؟، فقال له: لا.
فقال له: زوجتك؟، فقال له: لا.
فقال له: من يكون لك إذَا؟، فقال له: حبيبتي، فقال له: إنّ النساء كثير وسوف تجد غيرها، فقال له المعلم: أتظن بأنّي قد رأيتها؟، فقال له: كيف عشقتها وأنت لم ترها؟، فقال له: كنت في يوم جالس على باب هذا البيت، فرأيت رجل عليه عباءة، وهو يقول:
يَا أمَّ عَمْرو جَزَاكِ اللَّهُ مَكْرَمَةً
رُدِّي عَليَّ فُؤَادِي أيْنَمَا كَانَـا
لا تَأخُذِينَ فُؤَادي تَلعَبِينَ بِهِ
فَكَيْفَ يَلعَبُ بِالإنْسَانِ إنْسَانَـا
فقلت في نفسي: والله إنّه لم يقل بأم عمرو هذا الشعر، إلّا لأنّها أحسن ما في هذه الدنيا، فعشقتها، وبعد عدّة أيام مرّ نفس الرجل، وهو ينشد قائلًا:
لقَد ذَهَبَ الحِمَارُ بِأمِّ عَمروٍ
فَلا رَجَعَتْ وَلا رَجَعَ الحِمَارُ
فتيقنت من أنّها قد ماتت، وحزنت عليها حزنًا شديدًا، وأغلقت المكتب، وجلست في المنزل.
فقال له الجاحظ: والله إنّي قد ألفت كتابًا في نوادركم، وحينما عرفتك نويت أن أقطعه، وأمّا الآن فقد قويت من عزيمتي على أن أبقيه، وأنت أول من أبدأ به إن شاء الله.
بعض النقاط التي تلفت الانتباه في قصيدة يا أم عمرو جزاك اللّه مكرمة
- ذكاء الجاحظ وسرعة بديهته، حيث لاحظ أنّ المعلم ذو علم واسع وفضيلة كبيرة، فسارع إلى كتابة نوادره في كتابه.
- حزن الجاحظ على موت حبيبة المعلم، على الرغم من أنه لم يرها قط.
- اعتراف المعلم بأنّه وقع في حبّ أم عمرو دون أن يراها، اعتمادًا على ما قاله رجل آخر.
- سرعة انتشار خبر موت أم عمرو، ممّا يدلّ على أنّ الشائعات تنتشر بسرعة البرق.
القصيدة تُعلّمنا:
- أنّ الحبّ قد يُصيب الإنسان دون أن يراه.
- أنّ الشائعات قد تُنتشر بسرعة كبيرة، لذلك يجب علينا التأكد من صحة الأخبار قبل نشرها.
- أنّ ذكاء الإنسان وسرعة بديهته قد تُساعده في تحقيق أهدافه.