الآية:
﴿ بَلِ ٱدَّ ٰرَكَ عِلۡمُهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِۚ بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ (٦٦)﴾ [النمل ٦٤-٦٦]
إنّني أقول معتذراً، ولا أجرؤ على الاعتذار إلى مُنزّل القرآن الكريم الموحِي به، إنّما أعتذر إلى بلاغة القرآن وإعجازه بقصور ترجمتي، وأقول: لقد حدث ثقب علمهم في الآخرة، ولا أجد تشبيهاً وتعبيراً لوضع علماء الغرب ومفكريه وكشوفهم العلمية ورحلتهم الفلسفية والفكرية: أحسن وأجدر من هذا التشبيه .
كأن سيارة تسير في طريقها وإذا بها يحدث خلل جليل يمنعها عن المسير، ويعوقها عن المُضيّ في الطريق، ويشلُّ جميع قواها، فلا أجد لذلك تعبيراً أو وصفاً أجمل من تعبير” بنشرت السيارة”.
انظروا كيف أنّ العلم الذي كان يسير سيراً حثيثاً ويقطع المسافات الشاسعة بكل طمأنينة وثقة، وقد جال وصال في الميادين العقلية والرياضية والطبيعية وما بعد الطبيعية، حتى إذا وصل إلى مبحث (واجب الوجود) من حيث ذاته وصفاته، والآخرة، والحياة بعد الموت:” إدّارك” كأنّ العجلة بنشرت وأصبحت فارغة من الهواء، والألفاظ التي تلت هذه اللفظة في الآية الكريمة تعبر عن الكيفيات العقلية الغربية المتناقضة المترددة الحائرة، وعن مختلف طبقات الغرب (بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ مِّنۡهَاۖ بَلۡ هُم مِّنۡهَا عَمُونَ ).
والآية الكريمة الثانية التي جعلها الإمام ابن تيمية أساس مبحثه في كتاب
( النبوات ) هي: ﴿بَلۡ كَذَّبُوا۟ بِمَا لَمۡ یُحِیطُوا۟ بِعِلۡمِهِۦ وَلَمَّا یَأۡتِهِمۡ تَأۡوِیلُهُۥۚ كَذَ ٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَٱنظُرۡ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [يونس ٣٩].
إن العقلية الفجة المختلة تقول: إن كل ما هو غير مشهود: هو غير موجود، إن حصر الموجودات في المشهودات، لمِن عثرات العلم الإنساني والعقل البشري الكبيرة الهائلة، وقد صبغتها العقلية الغربية صبغة علمية فلسفية، وإنَّ ذلك لَمِن سوء حظ البشرية وعدوان ضد الإنسانية، وهذا هو الفرق الأساسي الكبير بين العلم المحروم من الفيض الإلهي السماوي وبين العلم المستنير بنور الرسالة السماوية، وقد بين سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتعبير سهل واضح ﴿ قَالَ أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ ﴾ [الأنعام ٨٠].
وهذا هو خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جبل الصفا، فقد كان بقمة الجبل، والناس في سفحة، فقال صلى الله عليه وسلم ( أرأيتم لو اخبرتكم أن وراء هذا الجبل جيشاً يريد أن يغزوكم، أكنتم مصدقيَّ؟) وقد كان العرب بدائيين متخلفين في الفلسفة والمدنية ولكنّم أثبتوا تفوقهم في سلامة العقول والواقعية لمّا رأوا أنّ الشخص الذي يخبرهم بذلك هو على رأس الجبل يرى أمامه وخلفه، وهو لا يكذب ويخون، فقالوا بلسان واحد: نصدقك يا محمد! فقد توصل العرب بصراحتهم وإدراكهم السليم للواقع إلى ما لم تصل إليه اليونان والرومان، ولم يصل إليه الغرب حتى الآن، فقد حسموا في الأمر ورأوا أنّه لا سبيل للتكذيب بناءاً على أنّنا لم نشاهد.