قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون :
الدعوة إلى الله تعالى حبٌ وعطاء، قبل الدعوة هناك تجربة إيمانية، يذوق فيها الداعية حلاوتها وهدايتها، ثم يُحب لغيره أن يشاركها هذه الهداية، فيظل يدعوهم؛ رحمة بهم، وحباً في هدايتهم.
لقد كان الداعية في سورة (يس) مثالاً عجيباً في هذا الحب، – قال أهل التفسير: هو حبيب بن مري وكان نجاراً- ظل يدعو قومه إلى الله تعالى، واتّباع المرسلين، منذ أن جاء من أقصى المدينة يسعى، وحتى مات مقتولاً مظلوماً في سبيل الله، وحتى قال ابن أبي ليلى: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين علي بن أبي طالب، وهو أفضلهم، ومؤمن آل فرعون، وصاحب يس وهم الصديقون.
وظل يُحب لقومه الهداية، منذ أن كان حياً بين ظهرانيهم، وحتى قيل له ادخل الجنة، قال تعالى: ﴿قِیلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ قَالَ یَـٰلَیۡتَ قَوۡمِی یَعۡلَمُونَ﴾ صدق الله العظيم [يس ٢٦]، ما أعجب هذا القلب الذي لا يجد الحقدُ إليه سبيلاً!، آذوه وحاربوه، وقتلوه ظلماً وعدواناً، وظل قلبه مشغولاً عن الأحقاد بتمني الهداية لهم.
ومن عجب أن يستدل الداعية على قسوته بدعاء نوح عليه السلام على قومه، ونسي ما كان قبل هذا الدعاء من قرون متطاولة، يدعوهم ليلاً نهاراً، وسراً وجهاراً حتى قال الله عنه: (قَالَ رَبِّ إِنِّی دَعَوۡتُ قَوۡمِی لَیۡلࣰا وَنَهَارࣰا (٥) فَلَمۡ یَزِدۡهُمۡ دُعَاۤءِیۤ إِلَّا فِرَارࣰا (٦) وَإِنِّی كُلَّمَا دَعَوۡتُهُمۡ لِتَغۡفِرَ لَهُمۡ جَعَلُوۤا۟ أَصَـٰبِعَهُمۡ فِیۤ ءَاذَانِهِمۡ وَٱسۡتَغۡشَوۡا۟ ثِیَابَهُمۡ وَأَصَرُّوا۟ وَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ ٱسۡتِكۡبَارࣰا (٧) ثُمَّ إِنِّی دَعَوۡتُهُمۡ جِهَارࣰا (٨) ثُمَّ إِنِّیۤ أَعۡلَنتُ لَهُمۡ وَأَسۡرَرۡتُ لَهُمۡ إِسۡرَارࣰا (٩)) صدق الله العظيم.
ومن تأسى (بنوح عليه السلام) في طول دعوته (لهم) من قبل، يصح أن يقتدي به في دعوته (عليهم ) من بعد، نبي الله نوح لم يبدأ بالدعاء على قومه، بل بالدعاء لهم، ولم يدعُ عليهم إلّا بعد حياة مديدة من الدعوة والرحمة، وظلّت بقيةٌ من هذه الرحمة حتى جاء الطوفان، وابنه كافر معرض، وهو يقول له: ﴿وَهِیَ تَجۡرِی بِهِمۡ فِی مَوۡجࣲ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِی مَعۡزِلࣲ یَـٰبُنَیَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ صدق الله العظيم [هود ٤٢] وبعد هلاكه وغرقه، ظلت رحمته في قلبه، ودعا ربه حتى نُهي، واستجاب عليه السلام لربه.