كل اناء بما فيه ينضح

اقرأ في هذا المقال


الأمثال العربية

جميع الأمم التي تعيش على كوكب الأرض لديها الموروث الثقافيّ الذي تتفرد به عن غيرها من الأمم، والذي بدوره يعبّر عن الكثير من الوقائع والمناسبات، التي حصلت خلال التاريخ، ولعل من أكثر أنواع التراث شهرة “الأمثال الشعبية” والحكم.
كما يقوم الناس باستخدام هذه الأمثال أو الحكم إذا مرّوا بظرف أو حدث مشابه للحدث الأصلي الذي قيلت فيه تلك الأمثال، فيعبرون عنه بمثل أو حكمة، وهكذا تبقى محفوظة، ويتداولها الناس جيلًا بعد جيل مع إضافة ما استجد من أمثال تعبر عن أحداث الحاضر، والمثل الذي سنتناوله لاحقًا، هو: “كل إناء بما فيه ينضح”، وقد ورد ذكره في معجم الأمثال للميداني بصيغة أخرى، هي: “كل إناء يرشح بما فيه”. 

معنى مثل كل إناء بما فيه ينضح

يحمل هذا المثل معنيين أولهما، وهو الظاهر الذي يتبادر إلى الذهن: أن كل أحد يُظهر ما في باطنه، حتى وإن أخفاه، وأما الثاني أن كل واحد يُجازى من جنس عمله، وهذا الذي قصده الحيص بيص (لقب شاعر)، عل عكس ما ذهب إليه الخفّاجي، فحيص بيص يدِل بالتفاوت بين الجماعتين، ويعتز بالعفو والصفح، فكيف يجازيهم من جنس عملهم؟

فيم يضرب مثل كل إناء بما فيه ينضح

كثيرًا ما يرد مثل “كل إناء بما فيه ينضح” في معرض الإشارة إلى الإنسان السلبي، فالإنسان كالإناء إذا ما امتلأ بالغَيرة والحقد وتصيد السلبيات، فلا يمكن إلا أن يفيض بالسلبية، مهما حاولنا أن نحول دون ذلك، كما إن المثل يرد إيجابيًّا، فالفاضل لا يصدر منه إلا الفضل، وهذا كمثل قول العامة: “ما بيطلع من المليح إلا المليح”، و”الثمرة لا تبعد عن الشجرة”، ولم يستطع أحد أن يحدد أول من قال العبارة، خاصة وأن المثل وارد في كتب الأمثال.

مثل كل إناء بما فيه ينضح في الشعر

لقد ورد هذا المثل في شطر لبيت من الشعر، لشاعر كان يلقب بحـيص بيص الذي توفي سنة 1179م، وهو لقب للشاعر سعد بن الصيفي التميمي، وكان من أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغاتهم، وقد سُميّ حيص بيص؛ لأنه رأى الناس يومًا في حركة مزعجة وأمر شديد فسأل: “ما للناس في حيص بيص”؟ فاشتهر فيه هذا اللقب، ومعنى هاتين الكلمتين الشدة والاختلاط، تقول العرب: وقع الناس في حَيص بَيص، أي في شدّة واختلاط، أو في هَرْج ومَرْج، أما أبياته الشهيرة التي يستخدم فيها العبارة فهي:
“ملكنا فكان العفوُ منا سجيّةً
فلما ملكتم سال بالدمِ أبطُحُ
وحلّلتمُ قتل الأسارى وطالما
غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح
فحسبكمُ هذا التفاوتُ بيننا
وكل إناءٍ بالذي فيه ينضَح”.

قصة مثل كل إناء بما فيه ينضح

أما قصة المثل فيُحكى أنه كان هناك قرية صغيرة لم يكن لأهلها أي صلة بالتمدن والتطور بعد، وكانوا يسمعون الكثير من الأمور العجيبة عن المدينة وعاداتها وتقاليدها المختلفة، وكانوا يريدون أن يعرفوا حقيقة ما يسمعونه عنها طوال الوقت، وفي أحد الأيام سافر من تلك القرية رجلان إلى المدينة، وقد غابا لفترة ثم عاد واحد منهم التفوا حوله وسألوه: كيف وجدت المدينة ؟ كيف هم أهلها ؟ ما حقيقة ما كنا نسمع عنه؟ فأجابهم الرجل بثقة: لقد ذهبت بنفسي، وعرفت الحقيقة، والحقيقة هي أن المدينة هي مرتع الفساد وكل أهلها سكّيرون لا يدينون بشيء، لقد كرهت المدينة.
أخيرًا عرف الناس الجواب الذي انتظروه طويلًا، فانفضوا وعاد كل منهم إلى عمله، وبعد ذلك بأيام عاد الرجل الثاني ولم يهتموا بسؤاله عن رأيه، إلا أنهم التفوا حوله حين وجدوا له رأيًا لم يتوقعوه: لقد ذهبت بنفسي وعرفت الحقيقة، والحقيقة هي أن المدينة مليئة بدور العبادة وكل أهلها متدينون طيبون لقد أحببت المدينة، أصيب الناس بالارتباك، هل المدينة سيئة أم جيدة؟ هل أهلها طيبون أم أشرار؟ ولم يجدوا مجيبا على هذا الأسئلة.
كان في القرية رجل حكيم، وهو شيخ متقدم في السن، اختبر الحياة وعرف الكثير، وكما أن الجميع يثق في ما رأيه، كان هو ملاذهم الوحيد، فذهبوا إليه بالقصة، وسألوه: الأول قال إن المدينة فاسدة مليئة بالأشرار، والثاني قال إنها فاضلة مليئة بالأطهار، فأي واحد منهما نصدق؟ أجاب الحكيم: كلاهما صادق، ولما رأى نظرات الحيرة على وجوههم استطرد قائلًا: الأول لا أخلاق له؛ لذا ذهب إلى أقرب حانة حين وصل للمدينة، فوجدها ممتلئة بالناس، بينما الثاني متدين صالح؛ لذا ذهب إلى المسجد حين وصل للمدينة، فوجده يعج بالناس، وأضاف: من يرَ الخير فهو لا يرى إلا ما في داخل نفسه، ومن يرَ الشر فهو لا يرى إلا ما في داخل نفسه.


شارك المقالة: