ذكر الله تعالى في القرآن الكريم” تُبَّعاً” هذا في مَوضِعين اثنين، في معرض الإخبار عن كُفر قومه، وذِكرِ ما حلَّ بهم من عذاب الله وسَخطهِ ، حيث قال تعالى:( أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ).الدخان/37 .
وقال سبحانه وتعالى:( وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ) ق/14 .
ونَهانا النبي عن سبِّ هذا الرجل؛ فقال صلى الله عليه وسلم:( لَا تَسُبُّوا تُبَّعاً، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل في” المُسنَد”( 37/519)، ورواهُ الصحابيّ” سَهل بِن سعد_ رضي الله عنه_ وقال المُحقِّقونَ عنه: حسن لغيرهِ؛ وحسَّنه الألباني في السِّلسلة الصحيحة( 2423).
من هو تُبَّع؟
هو أحد ملوك اليمن، وهو أبو كَرْب؛ أو التُّبّع أسعد بن مَلك يكْرب، أو أسعد أبو كُرَيْب بن مَلْك يكرب اليَماني، وهو تُبَّع الأوسط؛ وكان مشركاً ثمَّ أسلم، وكان يعبد الله على شريعة موسى عليه السلام، وقد توقف نبينا_ صلى الله عليه وسلم_ في شأنهِ في بادئ الأمر، هل كان رجلاً صالحاً أم لا؟ ثم بعد ذلك نزل عليه الوحي بأنّه كان رجلاً صالحاً، فنهانا عن سَبِّهِ، فقال صلى الله عليه وسلم:( لَا تَسُبُّوا تُبَّعاً، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ أَسْلَمَ).
وتُبَّع هو لقب ملوك مملكة حِميَر حَسَب ما ظنَّهُ المؤرِّخون العرب، بينما بالنُّقوش الحِميَريّة، فهو اللَّقب المَلكِيّ الحِميَريّ وهو” مَلِك سَبأ، وذِي رِيدان، وحضرموت، ويَمنت”، أمَّا” بنو تُبَّع” فَهم أقيَال( أمراء) شعب حُملان بالنُّقوش، وتقع بلدة حُملان في مركز بنو أحمد الإداري، في مديرية حَفاش، جنوب محافظة المَحويت اليَمنيّة.
ويعتقد بعض المُفسّرين أنّ تبع كان رجلاً مؤمناً، واعتبروا تعبير( قوم تبّع) الذي ورد في آيتين من القرآن دليلاً على ذلك، حيث أنّه لم يُذَمّ في هاتين الآيتين، بل ذُمَّ قومه، والرّواية المَروية عن النّبي شاهدة على ذلك وهي:( لا تسبّوا تبّعاً فإنّه كان قد أسلم).
وقد سَمُّوه تُبَّعاً باسم الظل، لأنّه يَتبع الشمس كما يَتبع الظِّل الشمس، ومعنى ذلك: أنه يسير بغزواته إلى كل مكان تَطلع عليه الشمس، كما قال تعالى في ذِي القرنين:( فأتبع سببا). وقيل لأنّه تَتبَعهُ ملوك مَخاليف اليمن، وتَخضعُ له جميع الأقيال والأمراء من ملوك مَخاليف اليمن، فلذلك لقِّب تُبَّعاً لأنه تتبعه الملوك.
قال ابن عباس_ رضي الله عنه_: كان تُبَّع نبيّاً، وقال كعب الأحبار: كان تُبَّع ملكاً من الملوك، وكان قومه كُهَّاناً، وكان معهم قوم من أهل الكتاب، فأمرَ الفريقين أَنْ يُقرِّبَ كلَّ فريقٍ مِنهُم قُرْباناً ففعَلوا، فَتُقبِّلَ قُربانُ أهلِ الكتابِ فأسلمْ.
وذُكِرَ أنّه مَلكَ على قومه ثلاثمائة سنة وستاً وعشرين سنة، ولم يكن في حِمْيَر أطول مدَّة منه، وتوفي قبل مبعث رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ بنحو من سبعمائة عام.
قصة الحديث
ذكرَ المُؤرّخون مثل ابن إسحاق عن( أبَيّ بن كعب، وعبد الله بن سَلّام، وعبد الله بن عباس، وكعب الأحبار، وإليه المَرجع في ذلك كلّه، وإلى عبد الله بن سلّام أيضاً، وهو أثبَت وأكبر وأعلم. أنَّ” التُّبّع أسعد اليماني أبي كُرَيب”، خرج من اليمن، وسار في البلاد حتى وصل إلى سمَرقند، واشتَدَّ مُلكه وعظُم سلطانه وجيشه، واتَّسَعت مَملكتهُ وبلاده، وكثُرت رعاياه، وهو الذي مَصَّر الحِيرَة.
وذُكِر أنه مَرَّ بالمدينة النبوية وذلك في أيام الجاهلية، ونزلَ بِفِنائها، فبعث إلى أحبار اليهود الذين كانوا يسكنونها فقال: إنّي مُخرّب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية، ويرجع الأمر إلى دين العرب.
فقال له شامول اليهوديّ_وهو يومئذ أعلمهم_: أيّها الملك، إنّ هذا بلد يكون إليه مُهَاجَر نبي من بني إسماعيل، مولده بمكّة اسمه أحمد. ثمّ ذكروا له بعض شمائل نبيّ الإسلام. فقال تُبّع: ما إلى هذا البلد من سبيل، وما كان ليَكونَ خرابُها على يَديَّ؛ وقال لِمَن كان معه من الأوس والخَزرج: أقيموا بهذا البلد، فإنْ خرج النّبي الموعود فآزِروه وانصُروه، وأوصوا بذلك أولادكم، حتى أنّه كتب رسالة أودَعهُم إيّاها؛ ذكر فيها إيمانه بالرّسول، وهو لوحٌ مكتوبٌ فيه شِعر، يذكر فيه أنه مؤمن بالنبي الذي سيُبعَث ويُهاجر إلى المدينة، وكانوا يَتوارَثونَهُ ويَروونهُ خَلفاً عن سلف، فتَوارثوه إلى أنْ وصل إلى” أبي أيوب الأنصاري”، وهو الذي نزل عنده النبي_ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم_ عندما قَدِم المدينةَ مُهاجِراً. وهذا الشِّعر هو:
شَهِدْتُ عَلَى أَحْمَدَ أنَّهُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ بَارِي النَّسَمْ.
فَلَو مُدَّ عُمْرِي إلى عُمْرِهِ لَكُنْتُ وَزيراً لهُ وابنُ عَمْ
وَجاهَدتُ بالسَّيْفِ أعْدَاءَه وَفرَّجْتُ عَنْ صَدْرِهِ كُلَّ غَمْ
ويروِي صاحبُ” أعلامِ القرآنِ”: أنَّ تبَّعاً كانَ أحدُ ملوكِ اليمنِ الَّذين فتَحُوا العالمَ، فقد سارَ بجيشهِ إلى الهندِ واستَولَى على بلدانِ تلكَ المنطقةِ. وقادَ جيشاً إلى مَكَّة، وكان يريدُ هدمَ الكعبةِ، فأصابَه مرضٌ عُضَالٌ عجِزَ الأطباءُ عنْ علاجِهِ.
وكانَ منْ بينِ حاشيته جمع من العلماء، كان رئيسهم حكيماً يُدعى شامول اليهوديّ، فقال له: إنّ مرضك بسبب سُوءِ نِيّتكَ في شأن الكعبة، وستُشفى إذا صَرَفتَ ذِهنك عن هذه الفكرة واستغفَرت، فرجع تُبَّع عَمَّا أراد ونذَرَ أنْ يحترم الكعبة، فلمّا تحسَّن حالهُ، كسا الكعبة بِبُردٍ يماني؛ وذبحَ عندها الذبائح، وأولَمَ لأهلِ البيت الحرام ثلاثة أيام، وقِيل أسبوعاً، ووزَّعَ الأُعطِيات على أهلها.
وذَكرَ” ابن أبي الدنيا” أنه حُفِر قبر بصنعاء في الإسلام، فوجدوا فيه امرأتين صَحيحتَين لمْ يأكل الدُّود جُثَّتيهِما، وعند رأسِهنّ لوحٌ من فِضّة مكتوب فيه بالذهب:” هذا قبر حُبَّى، ولَميس، ورُويَ: حُبَّى وتماضُر؛ ابنتي” تُبَّع”، ماتَتَا وهما تشهدان أن لا إله إلا الله، ولا تُشركان به شيئاً، وعلى ذلك مات الصالحون قَبلهما.
وذُكر أنَّ كعبَ الأحبار كان يقول في” تُبَّع”: نُعِتَ نَعْت الرجل الصالح، ذمَّ الله تعالى قَومهُ ولمْ يَذمّهُ.