لا يُصلِحُ العَطّار مَا أفْسَدَ الدَّهر

اقرأ في هذا المقال


فَطَرَ اللهُ البَشَر على حُبِّ فَترَة الشباب، لأنَّها خيرُ فَتراتِ العُمرِ، فيها القُوَّةُ، والجَمال؛ وإذا عُدتَ إلى استِقرَاءِ تَاريخ العَرَب، فإنّكَ تَجِد بأنَّ العَرَب لَمْ تَبْكِ على شَيءٍ أكثرَ من الشباب ، فتجِدُ ذلكَ زَاخِرَاً في أشعَارِهم، ونَثرهِم، ومِمَّا وَردَ في ذلكَ؛ الأبيات التي قَالهَا أبو العَتَاهِيَة على الشَّباب:
بَكيْتُ على الشّبابِ بدمعِ عيني    
…… فلم يُغنِ البُكاءُ ولا النّحيبُ
فَيا أسَفاً أسِفْتُ على شَبابٍ
….. نَعاهُ الشّيبُ والرّأسُ الخَضِيبُ
عَرِيتُ منَ الشّبابِ وكنتُ غضَّاً
…… كمَا يَعرَى منَ الوَرَقِ القَضيبُ
فيَا لَيتَ الشّبابَ يَعُودُ يَوْماً
….. فأُخبرَهُ بمَا فَعَلَ المَشيبُ !

قِصّة المَثل

يُروى أنّهُ قَد نزلَ رجلٌ أعرَابيّ بقبيلةٍ عَربيّة؛ وكانت في هذه القبيلة العربيّة امرأة عجوز لكنَّها كانت مُتَصابِيَة، تَستخدم مَساحِيق التَّجميل وترتدي زِي الفَتيات الصِّغَار، فَانخَدعَ هذا الأعرابيّ بِمَظهرهَا حيثُ تَفَنَّنَت في إخفاءِ مَظاهر الشَّيخوخَة التي دَبَّت في أوصَالها، وذُكِر له أنَّها شابَّة طَريّة ودَسّوا إليه عَجوزاً؛ واستَطاعت أنْ تُوقِع الأعرابيّ بِفَخّهَا؛ فَتقدَّم الرَّجل لِخِطبتهَا وبالفعل تَمَّ الزواج، وفي ليلةِ الزّواج تَكَشَّفت له الحَقيقة وعَلِمَ أنَّ حَظَّهُ العَاثِر أوقَعهُ في يدِ امرأةٍ شَمطَاء في زِي فَتاة شَابَّة، فأنشد يقول :

عَجوزٌ تُرجّي أنْ تَكونَ فَتيَّةً
وقَد نَحِلَ الجَنبانِ واحدَودَبَ الظَّهرُ
تَدُسُّ إلى العَطّارِ مِيرةَ أهلها
وَهَل يُصلِحُ العَطّارُ ما أفسَدَ الدَّهرُ؟
تزوجتها قبل المُحاق بليلةٍ
فعاد مُحَاقَاً كُلّه ذلك الشَّهرُ
وما غَرَّنِي إلا خِضابٌ بكَفّها
وكُحلٌ بِعَينيهَا وأثوابهَا الصُّفرُ

وهذه الأبيات وردَت في شعر الشَّاعر عُروة الرَّحّال، وَضَمَّنَ هذه الأبيات الشّاعر(جِرَان العَود) في دِيوانهِ. والشَّاعر جِرَان العَود، اسمه الحَارث بن عامر، وتَزوَّج زَوجَتين كان يَضربهُنَّ بالسَّوط؛ ولقِّب “جِران العَود” لأنه كان قد اتَّخذَ جِلداً من جِران (عُنق) العُود (الجَمل المُسِنّ) ليضرب به زوجتيه.

تأتِي العجوز الشَّمطاء تُحَاول أنْ تُجدّد شَبابهَا وَقد أصبَحَت هَزِيلة جدّاً وبلَغَت من العُمر عِتيّاً، فهي تَدفع للعَطَّار من طعامِ أهلِها حَتَّى تَشتري الكُحل والمَسَاحيق، ولكن قَد فاتَ الأَوَان، فالدَّهرُ قد أثْخَنَ فيها وفَعلَ فِعلَه، ولَنْ يُصلِح خَبِير التَّجميل أيّ شيء فيها.

هذه العجوزٌ أتى عليها الدَّهر فَرحلَ بِشبابُها، ولَمْ يُبقِ لها إلّا التَّجاعيد، وانحنَاءَ الظَّهْرِ، وَغَورَ العَينينِ. فأرَادَت هذه العجوز أنْ تُنَاطِحَ الدَّهْرَ، وأنْ تَمْنَعَهُ عن سَيرِهِ وخُطاه في جِسمهَا، تُرَجِّي عَودَة شبابهَا، فَلمَّا رأى زوجُ العجوز هذه المُحَاولاتِ الفاشلةَ في إيقاف الزَّمان؛ وَمَنعهِ من السَّير، قال الأبيات السَّابقة.
أرادَت أنْ تُمَنِّيْ نفسَها بأنْ تعودَ فُتُوَّتُها كما كانت؛ لِكَي تَتَمايَل أمام الزوجِ ، وَتُدِلُّ عليه بالشباب ونَضَارتِهِ ، فقامتْ بما تُملي عليها حيلَتُها، من المُبادلة والمُقايضة مع عَطَّارٍ يحملُ المِسكَ، ومُكمِّلات الشباب من حِنَّاء وكُحْلٍ، فَتُعطِيهِ خُبْزَ بيتِها مُقابلَ تلك الأشياء.
وما يَدُر في خَلَدِ هذه العجوز، أنَّ سلاحَ الدَّهْرِ والزَّمَن غالبٌ سلاحَ العَطَّار لا محالةَ؛ وإنَّ العُمْرَ إذا مضى لَنْ يعود أدرَاجهُ إلى الوَراءِ. حتّى أصبحَ هذا الشِّعر مَثلَاً دارِجَاً على ألسِنة الناس؛ ومعنَاه: أنّكَ لا تبحث عن أمرٍ أو شيءٍ، وقد مضى وفاتَ أوَانهُ، فالعَطَّار بوصفَاتهِ الطِّبيَّة وأعشابه لا يستطيع أنْ يُصلِح الفَساد والخَلَل الجسدي، مع عِلمِنا ويَقيننا بأنَّ الكَمال للخالق سُبحانه وتعالى فقط.


شارك المقالة: