لَا يُطَاعُ لقَصِيرٍ أَمر

اقرأ في هذا المقال


صَاحِبُ المَقُولة

صاحبُ هذا القَولِ هو: قَصِير بن سَعد بن عَمرو اللَّخمِيّ، من قبيلة لَخْم العربيّة؛ والذي كان صاحِباً لِجَذِيمة بن مالك بن نَصْر الذي يقال له : جَذِيمة الأبْرَش؛ والذي كان مَلكاً على شرقِ الفُرات في العِراق، وكان هذا الرجل معروفاً عند العَرَبِ بقولِ الأمثالِ والحِكَم، حتى أصبَحت حِكَمهُ دارِجَةً على ألسِنة النّاس؛ وكانَ ذَكيَّاً وعنده الفَراسَة بِمَعرفةِ النّاس؛ وكان صَاحِب رَأي ودَهَاء.

قِصّة هذا القول

تقول الرّواية؛ أنَّ المَلِك جَذِيمة بن مالك بن نَصْر، والذي يُقال له: جَذِيمة الأبرَش، وكان جميلُ الوجهِ، حَسَن المَنظَر، وكانَ فارِساً مِقدَاماً، وكانَ بهِ بَرَصٌ خفيف؛ فَسَمّتهُ العَرب بِجَذيمة الوَضَّاح تفادياً من ذِكرِ البَرَصِ به لأنّه مَلك؛ وقد مَلِك ما على شَاطِئ الفُرات في العراق؛ وكانَ قَد قَتلَ الملك عمرو بن الظَّربِ بن حسان بن أُذَينَة بن السُّمَيدَع، الذي كان مَلِكاً على الجَزيرة غربيّ نهر الفُرات في سُوريا؛ والتي يُقَال بأنّها مملكة تَدمُر؛ فَلمّا قتَلهُ تٌولّت عرش هذه المملكة بعدهُ ابنتهُ الزُّبَّاء بنت عمرو؛ وذكرت بعض الرّوايات بأن اسمهَا كانَ( نائِلة أو مَيسُون)؛ وأرَادت أنْ تأخُذ بثأرِ أبيها من قاتِلهِ.

فلمَّا اسْتَجمَعت أمْرَهَا، وانتَظَمَ مُلكهَا؛ أحَبَّتْ أنْ تَغزو جَذيمة، ثُمَّ رَأت بعد مُشاوَرةِ أعوانِهَا ومُستَشاريهَا، أنْ تَبعثَ للملكِ جَذِيمة برسالةٍ كَي تَستَقدِمهُ إليها وتقتله، وكَتَبت فيها: بأنَّها لَمْ تَجِد مُلْكَ النِّساء إلا قُبْحاً في السَّمَاع، وضَعْفاً في السُّلطان، ولَمْ تَجد لمُلكِهَا مَوضِعاً ولا لنفسها كُفأً غيرَك؛ فأقْبِلْ إليَّ لأجْمَعَ مُلكي إلى مُلكِكَ، وأصِلَ بلادي ببلادِكَ، وتَقَلَّد أمرِي مع أمْرِك.

قَصِير بن سَعد؛ يَنصَح جَذِيمة الأبْرَش

فلما أتى كتابُهَا إلى جَذِيمةَ، طَمِعَ وَرَغِبَ فيما عَرَضتُهُ عليه؛ فَجمعَ أهلَ الرَّأي والمُشَاوَرةِ من ثِقَاتهِ وكانَ في مَكانٍ يُقال له《بَقَّةَ》 من شاطئ الفرات؛ فقرأَ عليهم الكِتاب وذكَرَ ما دَعَتهُ وعَرَضَت عليه الملكة الزُّبَّاء؛ فاجتمعَ رَأيهُم على أنْ يَسيرَ إليها فَيستَولِي على مُلكِهَا، وكان فيهم قَصِير بن سعد اللّخميّ، وكان رجلاً أرِيبَاً حَازِماً، فَخَالفهُم فيما أشَارُوا به على المَلك جَذِيمة؛ وقال: رَأيٌ فَاتِر وغَدْرٌ حَاضِر؛ حتّى صَارت كلمتهُ هذه مَثلاً؛ ثُمَّ قال لِجَذيمة: الرأيُ أنْ تَكتُب إليها، فإنْ كانت صَادقةً في قَولهَا فَلْتُقْبِل إليك ولا تُمَكّنهَا من نفسِكَ ولا تَقَعْ في حِبالِهَا، وقد قَتلتَ أباها؛ فَلَمْ يُوافِق جَذيمة على ما أشار به قَصِير.

ودَعَا الملك جَذيمة ابنَ اختهِ عمرو بن عَدِيٍّ؛ فاستشَارهُ فشجَّعَهُ على المَسِيرِ إليها، وقال: إنَّ قَومي مع الزُّبَّاء، وَلَو قَدْ رَأَوْكَ صَاروا معك. فأحَبَّ جَذيمةُ ما قَالهُ ابن اختهِ، وعَصَى قَصِيراً؛ فقال قَصير مقولتهُ المَمشهورة والتي أصبحت مَثَلاً: لا يُطَاعُ لقَصِيرٍ أمرٌ ؛ واسْتَخلفَ جَذيمةُ، عمرَو بن عديٍّ على مُلكهِ وسُلطَانهِ.

جَذِيمة الأبْرَش يسيرُ إلى الزُّبَّاء بنت عمرو

وسَارَ جَذيمةُ في وُجُوه أصحابهِ، حتى وَصلَ شاطئ الفُرَات من الجَانب الغَربيّ، فلمَّا نزَلَ دَعَا قَصِيراً فقال له: ما الرأيُ يا قَصِير؟ فقال قصير:” ببقَّةَ خَلَّفْتُ الرَّأي”، فَصَارت مَثَلاً بين العرب؛ ثُمَّ قال له: وما ظَنُّكَ بالزُّبَّاء؟ فقال: القَولُ رَادِفٌ والحَزْمُ عثَرَاتُه تُخَاف. فصارت أيضاً مَثلاً على ألسِنةِ النّاس.

فَجَاءهُ رسُلُ الزُّبَّاء وقَدَّمُوا له الهَدَايا؛ فقال: يا قَصِير كيفَ تَرى؟ قال: خَطْبٌ يَسِير في خَطْبٍ كبير، وسَتَلْقَاكَ الجيوشُ فإنْ سَارَت أمَامَك، فالمَرأةُ صَادقة، وإنْ أخَذَتْ جَنبَتَيكَ وأحَاطَت بكَ مِن خَلفِكَ، فالقومُ غَادِرون بِكَ؛ فَارْكَبِ العَصَا فإنه لا يُشَقُّ غُبَاره؛ وكانت العَصَا فَرَساً لجَذِيمة لا تُجَارى، وإنّي رَاكِبُها ومُسَايركَ عليها، فَلقِيتهُ الخيولُ والكتائب من جَنبَيهِ وأحَاطَت بهِ، فَحالت بينَهُ وبين العَصا فَركبهَا قَصِير وَجَرَت به إلى غُروب الشَّمس ثُمَّ ماتَت وقد قَطَعت أرضَاً بعيدة فبَنى عليها بُرْجاً يقال له : بُرْجُ العصا وقالت العرب: خَيْرٌ ما جاءت به العَصا.

قَتل جَذيمة الأبْرَش

وسار جَذيمة وقَد أحَاطت به الخيلُ حتى دخل على الزُّبَّاء فلما رأته تكشفت فإذا هي مَضْفُورةُ الأسِبْ( ومعناه أنّ ضَفائر شَعرِها وصلت رُكَبهَا)؛ ثُمّ قالت لهُ: أدَأب عرُوس ترى؟ فقال جَذِيمة: إنّه قَد بَلَغ المَدَى وجفَّ الثَّرَى وأمْرَ غَدْرٍ أرى.

ثُمَّ دَعَتْ جُنودهَا، وقالت هَاتوا لي سيفَاً وطَستَاً من ذهبٍ، وقالت: إنَّ دماءَ المُلوك شِفَاء من الكَلَبِ، وسَقَتْه الخَمر حتى سَكِر وأَخَذتِ الخمر منه مَأخَذهَا؛ قَدَّمت إليه الطَّستَ وضَرَبَت عُنُقَهُ؛ وقد قِيل لها: إنْ قَطَرَ من دمهِ شيء في غيرِ الطَّسْت طُلِب بِدَمهِ، وكانت المُلوك لا تُقْتَل بِضَربِ الأعنَاق إلا في القِتال تَكْرِمةً للمَلك فلما ضعفت يَدَاه سقطَتَا فقَطَر من دَمهِ شيئاً على الأرض في غيرِ الطَّستِ، فقالت: لا تُضَيّعُوا دَم المَلك. ثُمَّ هلَكَ جَذِيمة، وجَعلت الزُّبَّاء دَمهُ في رَبْعَةٍ( وهي الوعَاء الذي كان يُوضَع به العِطر والطِّيب).

نعودُ إلى صاحبنَا قَصير بن سعد؛ فقد عاد إلى بلادهِ وحكى ما حَدَث لِعمرو بن عَدِيٍّ ابن أختِ الملك المقتول وهو بالحِيرَة فقال له قَصِير: أثائِرٌ أنت؟ قال: بَلْ ثَائِرٌ سَائِر؛ فقال قَصير لعمرو بن عدي: تَهَيَّأْ واستعدَّ ولا تُطِيلَنَّ بأخذِ ثأرِ خَالك. قال: وكيف لي بها وهي أمْنَعُ من عُقَاب الجَوِّ؟ وكانت الزُّبَّاء قَد سَألت كَاهِنةً لها عن هَلاكِها، فقالت: أرى هَلاككِ على يدِ غُلامٍ مَهِين غَير أمينٍ وهو عَمرو بن عَديّ، ولَنْ تموتي بيدهِ، ولكنَّ حَتْفك بِيَدكِ وَمِن قِبَلهِ ما يكون ذلك، فحذِرَتْ عَمْرَاً واتَّخذَت لها نَفَقاً من مَجلسها الذي كانت تجلس فيه إلى حِصنٍ لها في داخل مدينتها؛ وقالت: إنْ فَجَأني أمْرٌ دخلتُ النَّفق إلى حِصني؛ وَدَعَت رَجُلاً مُصَوِّراً من أجْوَدِ أهلِ بلادهِ تَصويراً ورَسمَاً وأحسَنهِم عَملاً، فجَهّزَتْه وأحسَنَت إليه وقالت: سِرْ حتى تَقْدُمَ على عَمرو بن عدي؛ فَتَخلُوا بحَشَمهِ وتَنضمّ إليهم وتُخَالطهم وتُعلِمهُم ما عندك من العِلمِ بالصُّور ثم أثبِتْ لي عمرَو بن عدي معرفة، فصَوِّرْهُ جالساً وقائماً وراكباً ومُتَفَضّلاً ومُتَسلِّحاً بَهيئتِهِ ولِبسَتهِ ولونهِ؛ فإذا أحكَمْتَ ذلك، فارجِع إليّ.

فانطَلَقَ المُصَوّر حتى قَدِم على عمرو بن عدي وصنعَ الذي أمَرتهُ به الزُّبَّاء، وبلغَ من ذلك ما أوْصَتْهُ به؛ ثمَّ رجَعَ إلى الزُّبَّاء بِعلمِ ما وجَّهتهُ له من الصُّورةِ على ما وصَفَت. وأرادت أنْ تَعرف عمرو بن عدي فلا تَراهُ على حالٍ إلا عَرَفتهُ وحَذِرتهُ وعَلِمت كُلّ شُؤونِ حياتهِ.

قَصِير بن سَعد يَثْأر لِمَقتلِ جَذِيمة

واتّفقَ قَصِير مع عمرو بن عدي على مكيدةٍ لقتلِ الزُّبَّاء؛ وهي بأنْ طَلبَ قصير من عمرو بن عديّ؛ وقالَ له: اجْدَعْ أنْفِي واضرب ظَهْرِي وَدعنِي وإيّاها، ففعلَ عمرو ما طَلبهُ قَصِير؛ فقالت العرب : لِمَكْرٍ ما جَدَع قَصِير أنفه؛ وفي ذلك يقول الشّاعر المُتَلمِّس: 
وفِي طَلَبِ الأوْتَارِ ما حَزَّ أنْفَهُ … قَصِير ورَام الموتَ بالسَّيفِ بَيْهَسُ 

ثمَّ خرجَ قَصِير كأنه هَارِب وأظهَرَ أنَّ عَمْراً فعل ذلك به وأنَّه زَعَم أنَّه مَكَر بِخَالهِ جَذيمة. فَقِدمَ على الزُّبَّاء فقيل لها: إنَّ قَصيراً بالباب فَأمَرت به فَأدُخِل عليها؛ فإذا أنفُه قد جُدِع وظَهره قد ضُرِب، فقالت: ما الذي أرَاهُ بك يا قَصير ؟ قال : زعَمَ عمرو أنّي قَد غَرّرتُ خَالهُ وزيّنتُ له المَسِيرَ إليك وغَشَشتهُ، ففعل بي ما تَرَيْن فأقبَلتُ إليكِ وعرفْتُ أنّي لا أكونُ مع أحدٍ هو أثقلُ عليه مِنكِ؛ فأكرمَتْه وأصابَتْ عنده من الحَزْمِ والرأي ما أرَادَت.

فلمّا عَرفَ أنها قد وثِقْت به قال: إنَّ لي بالعراق أموالاً كثيرة وطَرَائِفَ وثياباً وعِطْراً؛ فابعثيني إلى العراق لأحملَ مالي وأحملَ إليكِ من طَرَائفها وثيابها وطِيبهَا وتُصِيبِينَ في ذلك أرباحاً عِظيمة . فَلَمْ يَزَل يُزَيِّنُ ذلك حتى أذِنَت له ودَفَعت إليه أموالاً وجَهَّزتْ معه عَبيداً، فسارَ قَصير بما دَفَعت إليه حتى قَدِمَ العراق وأتى الحِيرَة مُتَنكِّراً؛ فدخل على عمرو فأخبره الخبَرَ وقال : جَهّزنِي بِصُنوفِ الثِّياب والطِّيب والأمتعة، لعَلَّ اللّه يُمكّننا من الزُّبَّاء فتصيبَ ثأرك وتقتلَ عَدوّك، فأعطَاهُ حَاجَتهُ فَرجَعَ بذلك إلى الزُّبَّاء فأعجبها ما رَأت وسَرَّها وازدَادت به ثِقَةً؛ وجَهّزته ثانيةً فسار حتى قَدِمَ على عمرو فجَهّزه وعاد إليها ثم عاد الثالثة وقال لعمرو : اجْمَعْ لي ثِقَاتِ أصحَابك، واحْمِلْ كلَّ رجلين على بعيرٍ في غَرَارَتَين( والغَرَارَة هي كِيس من الخَيشِ كان يوضع به القمح أو الشّعير)؛ فإذا دَخَلُوا مدينة الزُّبَّاء أقَمْتُكَ على بابِ نَفَقِها وخرجَتِ الرجال من الغَرَائِر فصَاحُوا بأهل المدينة، فَمَن قَاتلَهم قَتلُوه؛ وإنْ أقْبَلَت الزُّبَّاء تُرِيدُ النفَق جَلَّلْتهَا بالسيف.

مَقتَل الزُّبَّاء بنت عمرو

يَحمِلُ عمرو بن عَديّ الرّجالَ في الغَرائِر ومعهم السِّلاح وسار يَكْمُنُ النَّهارَ ويَسيرُ اللّيل، فلمَّا صَار قريباً من مَدِينتهَا تقدَّمَ قَصِير فَبشَّرَها وأعلَمهَا بما جَاء من المَتاعِ والطَّرائِف؛ وقال لها: آخِرُ البَزِّ والثِّياب على القَلُوص، وطلبَ منها أنْ تَخرُج فَتَنظُر إلى ما جاء به وقال لها: جِئْتُ بما صَاءَ وصَمَت( كان يُعني بذلك أنّهُ جاء برجَالٍ أصواتهم حادّة وقويّة)، ثُمَّ خَرجَت الزُّبَّاء فَأبصَرت الإبلَ تَكَادُ قَوائمُهَا تَسُوخُ في الأرضِ من ثِقَلِ أحمَالهَا، فقالت: يا قَصير 
ما لِلُجِمَالِ مَشْيُهَا وَئيدَا … أَجَنْدَلاً يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدا 
أَمْ صَرَفَاناً تَارِزاً شَديدا 

فقال قَصِير في نفسه : بل الرِّجَالَ قُبَّضاً قُعُودا.
فَدخَلت الإبلُ المدينةَ حتى كان آخرها بعيراً مَرَّ على بَوَّابِ المدينة وكان بيده مِنْخَسَة من حديد، فنَخَس بها الغَرَارة التي على ظهرِ البعيرِ فأصابت خاصِرَةَ الرجل الذي فيها فَأخرَجَ صوتاً، فقال البَوَّاب: شَرٌّ في الْجُوالِق( أي هُناك شَرٌّ ومُصيبة بهذه الغَرائر والأحمال التي على الجِمَال)؛ فَلمّا تَوسَّطَت الإبل المدينة أَنِيخَتْ وَدَلَّ قَصِيرٌ عَمرَاً على باب النَّفَقِ الذي كانت الزُّبَّاء تَدخُلهُ وَأرَتهُ إيَّاه قَبْلَ ذلك وخَرجت الرِّجالُ من الغَرائِر فَصَاحُوا بأهل المدينة ووضَعوا فيهم السِّلاح.

ووقَفَ عمرو على بابِ النَّفَق وأقبَلت الُّزبَّاء تُريدُ النَّفق؛ فَأبْصَرَت عَمْراً بن عَدِيّ، فَعَرفَتهُ بالصُّورة التي صُوِّرت لها فَمَصَّتْ خَاتَمهَا وكان فيه السُّمّ وقالت : بِيَدِي لا بِيَدِ عَمرو؛ فصارت كَلِمتهَا هذه مَثَلاً وشَاعَت بين العَرَب. وتَلقَّاهَا عَمرو فَجلَّلها وأكمَل عليهَا بالسَّيف وقَتلَها وأصَاب ما أصَاب من المدينة وأهْلهَا وانكَفأ راجعاً إلى العراق.


شارك المقالة: