مجالس الغناء والطرب الأموي

اقرأ في هذا المقال


انتهت حياة البداوة والجاهلية مع بداية العصر الأموي وقد توجه الأدب في هذا العصر إلى ترك البداوة والتطرف إلى وصف المدن، وانتشار مجالس الطرب التي يعقدها الخلفاء وأصحاب النفوذ، وأصبح دور المغنين والمغنيات في هذا العصر واضح في إحياء الغناء والطرب وانتشار المجالس المعنية بذلك.

أرباب الفن من المغنين والمغنيات

شُغف العرب منذ القدم بالإنصات الألحان الشجية التي تحرك الأحاسيس والنفوس، وتعلقوا بأغاني الطرب التي ترتاح لها النفس وتهواه الأفئدة، مثال على ذلك ما قاله صاحب ” محاضرات الأدباء ومحاور الشعراء” عندما سأل عن أجود الغناء فقال: “ما أطربَك ألهاك أو أحزنك وأشجاك” وقال ابن عبد ربه عن ذلك أيضاً:” صناعة الغناء مُراد السمع ومرتع النفس وربيع القلب ومجال الهوى ومسلية الكئيب واُنس الوحيد وزاد الراكب لِعظم موقع الصوت الحَسن من القلب وأَخذِه بمجامع مع النفس.” 

الغناء في العصر الأموي

كان من العادات المنتشرة في العصر الأموي أنه إذا همَّ المغنون بالغناء يجب على الجميع الإنصات وعدم التكلم ويعتبروا الكلام أثناء الغناء من سوء الأدب وعن ذلك قال الشاعر:

لو كان لي أمرٌ قضيت قضية 

إن الحديث مع الغناء حرامُ

كان الغناء العرب قائم على ثلاثة أشكال وهي: السناد، والنصب، والهزج، وهو غناء الرقيق والجواري والسناد هو الغناء الثقيل كثير الألحان، أما الهزج هو الخفيف والذي به يهيج القلوب ويشعلها، غلب في بداية الأمر على العصر الأموي رفضه الغناء والموسيقى وتحريمها من قبل معظم الخلفاء الأمويين.

ولم يشجعوا عليه وربما يعود سبب ذلك إلى توجههم في بداية العصر إلى تثبيت قواعد دولتهم وتوجههم للفتوح الإسلامية، وكذلك كان لبُعد الحجاز عن فارس والشام دور في إهمال مجالس الغناء والموسيقى، لكن بعد سيطرت الدولة الأموية وانتشار سيادتها أخذ الخلفاء الأمويين إلى تشجيع الغناء والطرب بشكل كبير، وكانوا يستمتعوا بسماع أشهر المغنين والمغنيات.

مجالس الغناء والطرب في العصر الأموي 

أسس الأمراء الأمويين مجالس للغناء كانوا يستمعون فيه إلى أشهر المغنين والمغنيات وكانت تنشر الأشعار مصحوبة بالإيقاع والألحان فَيطرب لسماعها الخلفاء، وكان معاوية الأول مُتعلق كثيراً بسماع الشعر المصحوب بالإيقاع، وعن ذلك رووا أنه: ” أعدَّ عبد الله بن جعفر طعاماً لمعاوية وَدعاه إلى منزله وأحضر ابن صياد المغني، ثم تقدَّم إليه يقول إذا رأيت معاوية واضعاً يده في الطعام فحرّك أوتاره وغن، فلما وضع معاوية يده في الطعام حرّك ابن صياد أوتاره وغنىّ بشعر عدي بن زيد وكان معاوية يُعجب به:

يا لبينى أوقدي النارَا 

إن من تهوين قد حارا

رُب نارٍ بتُّ أرمقها

تقضم الهندي والغارا

ولها ظبيٌ يؤججها

عاقدٌ في الخصر زنَّرا

“وأَعجب معاوية غناؤه حتى قبض يده عن الطعام وجعل يضرب برجله الأرض طرباً، فقال عبد الله بن جعفر: يا أمير المؤمنين إنما هو مختار الشعر يُركبَّ عليه مختار الألحان، فهل به بأساً؟ قال: لا بأس بحكمة الشعر مع حِكمة الألحان”.

كما كان معاوية يطرب بغناء بديع وكان يصفه بالكريم وخصوصاً عندما يشتد طربة ومثال على ذلك ما غناه بديح المغني في مقر معاوية:

أليس عندك شكرٌ للتي جعلت

ما ابيض من قادمات الشعر كالحمم

وجددت منك ما قد كان أخلقه

صرف الزمان وطول الدهر طروب

أقام خلفاء بني أمية المجالس لهم ولأهلهم وأصحابهم وَكانوا يستقطبون لهذه المجالس نخبة من المغنين والمغنيات، مثل مجلس معاوية الأول حيث ليلى الأخيلية التي كانت ترتاده وكان يهيم بحبها الخِفاحي، وذات مرة سأَلها معاوية عن الخِفاحي فأجابت: ” يا أمير المؤمنين ليس كما يقول الناس حقاً، والناس شجرة بغي يحسدون أهم النعم حيث كانت وعلى من كانت، ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان حديد اللسان شجا للأقران، كريم المختبر عفيفاً جميل المنظر” وكانت تنشد في مجلس معاوية ما تحفظه عن الخِفاحي وتقول:

وهل تَبكين ليلى إذا مِتُّ قبلها 

وقام على قبري النساء النوائحُ 

كما لو أحب الموتُ ليلى بكيتها

وجاد لها دمعٌ من العين سافِحُ

وأغبطُ من ليلى بما لا أنالهُ 

بلى كل ما قرَّت به العينُ طالِحُ

وكانت تحفظ للخفاحي أيضاً وتنشده في مجلس معاوية ويطرب في سماعها:

حمامة بطن الواديين ترنَّمي 

سقاك من الغرّ الغوادي مَطيرُها 

أبيني لنا لا زال ريشك ناعماً 

ولا زلت في خضراء غصن نظيرُها

وكنت إذا ما زُرتُ ليلى تبرقعت

فقد رابني منها الغداة سفورُها

أما ديوان عبد الملك بن مروان كان يحضره العديد من المغنين والمغنيات، وكان عبد الملك يشجع على ذلك ويطرب لِسماعهم ويغرقهم بالكثير من العطايا تشجيعاً لهم، وقيل أنه ذات مرة حضرت ديوانه عزة وهي محبوبة كُثير وأنشدت شعراً كُثير، وعندما حضر كُثير إلى مجلس عبد الملك قال له عبد الملك: ” أأنت كُثير عزة؟ قال: نعم، قال أن تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال يا أمير المؤمنين تلٌّ عند محله رحب الغناء شامخ البناء عالي السناء” وأنشده:

ترى الرجل النحيف فتزدريه

وفي أثوابه أسدٌ هصور

وفي مجلس الحجاج كان يجتمع كبار المنشدين البارعين في إنشاد الشعر، وأمثال الحكم الأسدي والذي كان كثير الإنشاد بين يدي الحجاج ويقول:

وإني لأستغني فَما أبطرُ الغنى

وأعرضُ ميسور لمن يبتغي عرضي

كف الأذى عن أسرتي وأوده

على أنني أجزي المقارض بالقرض

وأبذل معروفي وتصفو خليقتي

إذا كُدَّرت أخلاق كل فتى محض

وأقضي على نفسي إذا الحق نابني

وفي الناس من يُقضى عليه ولا يقضي

وامنحه مالي وودي ونُصرني 

وإن كان محسني ضلوع على يغضي

أشهر المغنيات في مجالس العصر الأموي

سلامة القس: هي من أبرع المغنيات في عهد بني أمية، وهي مولدة من المدينة، تتلمذت على يد عائشة ومعبد وبرعت في الغناء، وهام عبد الرحمن الجشمي في حبها وكان يدعى بالقس وظهر عليه لقبه. كما فتن بها يزيد الثاني وقام على شرائها من المدينة وقيل أن أهل المدينة ودعوها آنذاك وداعاً مهيباً عندما همت للانتقال إلى دمشق إلى مجلس يزيد الثاني، وقال أبو فرج مصوراً هذا الوداع:

” قدمت رسل يزيد بن عبد الملك المدينة فَاشتروا سلامة المغنية من آل رمانة بعشرين ألف دينار، فلما خرجت من مِلكِ أهلها طلبوا إلى الرسل أن يتركوها عندهم ليجّهزوها بما يشبهها من حلي وثياب وطيب، فقالت لهم الرسل هذا كله معنا، وشيَّعها الخلق من أهل المدينة وأذن للناس عليها فَانقضَُوا حتى ملئوا رحبة القصر فوقفت بينهم ومعها العود وغنتهم”، ومطلع القصيدة التي غنتها سلامة القس: 

فارقوني وقد علمت يقيناً 

ما لمن ذاق ميتة من إيابِ

أشهر المغنين في مجالس العصر الأموي

طويس: عرف ببراعته في الغناء، والضرب على الدف، على دراية واسعة بأنساب أهل يثرب، وكان الخلفاء الأمويين يدمنون على مجالسته والإنصات إلى غنائه، ونعته أبو فرج حيث قال: ” كان مُفرطاً في طوله مضطرباً في خلقه أَحول”، من أغانيه:

تناهى فيكم وجدي 

وصدع حبهم كبدي

فقلبي مُصعر حزنا 

بذات الخال في الخد

فما لاقى أخو عشق

عشير العشر من جهد 

وفي النهاية نستنتج أن مجالس الغناء والطرب انتشرت في العهد الأموي وخصوصاً في بلاط بني أمية أمثال معاوية الأول، وعبد الملك، والحجاج، وبرز في هذا العصر العديد من المغنيات والمغنيين مثل سلامة القس والطويس.


شارك المقالة: