محنة عظيمة وتوبة كريمة

اقرأ في هذا المقال


الآية:

لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِیِّ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُ فِی سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقࣲ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ * وَعَلَى ٱلثَّلَـٰثَةِ ٱلَّذِینَ خُلِّفُوا۟ حَتَّىٰۤ إِذَا ضَاقَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَیۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوۤا۟ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّاۤ إِلَیۡهِ ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡ لِیَتُوبُوۤا۟ۚ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ﴾

كانت غزوة تبوك التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم في سنة تسع من الهجرة غزوة شديدة؛ غزاها النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول كعب بن مالك رضي الله عنه ( في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، ومفازاً، وعدواً كثيراً) يعني المملكة الرومية العظيمة التي كانت تحكم نصف الأرض المعمورة تقريباً، وكان ذلك في عسرة الناس وجدب البلاد ولذلك سُميت غزوة العسرة، وقد طابت الثمار والظلال في المدينة وقويت الرغبة في البقاء في الوطن والأهل، وانصرفت الطباع وزهدت النفوس في الخروج والغزو، وقد اجتمعت الأسباب المثبطة العائقة، وحلا البقاء في المدينة، وشقَّ الخروج والمجازفة بالحياة، أمام عدو قد دمر الإمبراطورية الفارسية، وهزمها هزيمة منكرة بالأمس القريب.
ولكن كان من معجزات التربية النبوية، ومن معجزات الإيمان والعقيدة أنْ لم  يتخلف عن هذه الغزوة الشاقة العسيرة، إلا ثلاثة أشخاص من المؤمنين، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ولا ديوان، فما من رجل يريد أن يتغيب إلّا ظنّ أنّه سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى، فليس عليهم رقيب إلا الإيمان، وليس لهم حسيب إلا ضميرهم وعقيدتهم، ولم يتخلف هؤلاء الثلاثة إلّا بطبيعة التسويف أو الكسل الذي قد يعتري الرجل النشيط.

وقد كانوا فيما لقُوا من تأنيب الضمير ولائمة النفس، والشعور بالغربة، والتخلف عن الرفاق، وعن الإنسان الذي آثروه على نفوسهم وأولادهم ومُهجهم وأرواحهم (قد كان في ذلك عقاب شديد).

ولما رجع النبي صلى الله عليه وسألهم عن سبب التخلف فصدَقوا واعترفوا، وكان لا بد من تأديب، وكان لا بد من درس، وكان لا بد من امتحان الإخلاص والولاء، والحُب والوفاء، وكان ذلك فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كلامهم من بين من تخلف عنهم.

فماذا كان بعد ذلك؟ ظهرت معجزة مثبتة للإيمان والتربية وسلطان العقيدة، كانوا أبناء المدينة، عاشوا فيها ولهم فيها إخوة وأقارب، وأهل وولد، وأصدقاء وأحباب، ولكن خضع المجتمع كلّه لكلمة تصدر من شفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا عاصي، ولا ثائر.

ويأمره النبي بأن يعتزل امرأته، فيفعل ويلحقها بأهلها، ويخطب وده ملك غسان الكبير، ويدعوه ليواسيه ويكرمه، وكان أشد محنة امتحن بها مُحب ( يجفو الحبيب القريب ).

ويطالبه ويغيره ملك غسان، ولكنّ النفس تأبى فيرفض لك في إباء وكراهية وتحقير، إنّها معجزة ثالثة للإيمان والتربية وسلطان العقيدة.

ولمّا تمّ كلُ ذلك، وبلغ الضيق غايته، والمحنة أشُدها، ولا أبلغ من قول الله تعالى (ضَاقَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ وَضَاقَتۡ عَلَیۡهِمۡ أَنفُسُهُمۡ وَظَنُّوۤا۟ أَن لَّا مَلۡجَأَ مِنَ ٱللَّهِ إِلَّاۤ إِلَیۡهِ…) تاب الله على هؤلاء المخلفين المؤمنين الصادقين، الذين ظهرت قوة إيمانهم في هذه المحنة أشد ممّا تظهر في معركة حربية أو غزوة عملية، وثبتوا في هذا الجفاء والإقصاء أشد ممّا يثبت البطل على حرّ السيوف والأسنة.

تاب الله عليهم توبة كريمة، شَّرف فيه قدرهم، وغسل عنهم عارهم، وخلد ذكرهم، وبيض وجوههم، وبدأ بالنبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وهكذا ألحقهم بأصحابهم الذين سبقوهم ووضعوهم في هذا المكان المشرّف الكريم.

وما بدأ بذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ولا بذكر الذين ساهموا في هذه الغزوة، إلّا لإعادة الثقة إلى نفوس هؤلاء الثلاثة وردِّ اعتبارهم ومكانتهم في المجتمع، ولإزالة ما يسميه علماء النفس اليوم ب ( مركب العصر ) وهي مصلحة عظيمة من مصالح التوبة، ولذلك جاء في الحديث الشريف (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له)

الخلاصة :

ليس هناك طريق أو أسلوب أقوى وأعمق تأثيراً من الأسلوب الذي اختاره القرآن، وهو أنّه قدَّم ذكر السابقين الراسخين الذين سبقت لهم الحسنى ولم يسقطوا هذه السقطة، يُّشرفهم ويتقدم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدأه بقوله (لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِیِّ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ.. ليعرف الناس أن التوبة مَكرمة وفضيلة، ويحتاج إليها الأنبياء والمرسلون والسابقون الأولون، والمؤمنون الراسخون، والمجاهدون المغامرون، لئلا يشعر هؤلاء الثلاثة أنّهم مُنحطون في القدر نازلون في الشرف، ولئلا يلصق بهم هذا العار، ولئلا يشعر المجتمع الإسلامي أنّهم غرباء متميزون، وشامة في الناس يُشار إليهم بالبنان )


شارك المقالة: