ميتافيزيقية برادلي

اقرأ في هذا المقال


“مهما كانت الطريقة التي تؤخذ بها الذات فإنّها ستثبت أنّها مظهر، ولا يمكنها إذا كانت محدودة أن تحافظ على نفسها ضد العلاقات الخارجية، فهذه ستدخل في جوهرها وتدمر استقلالها …”

برادلي – المظهر والواقع

فلسفة برادلي في كتاب المظهر:

يتضمن الكثير من الكتاب الأول عرضًا لمقترحات مألوفة والتي تشكل جزءًا فقط من حالة فرانسيس هربرت برادلي حيث يزعم على سبيل المثال أنّ هذه الحركة تنطوي على مفارقات، وأنّ الصفات الأساسية وحدها لا يمكن أن تمنحنا الواقع لأنّها لا يمكن تصورها بدون صفات ثانوية، وأنّ الفكرة الشيء في حد ذاته متناقض مع ذاته لأنّه إذا كنا لا نعرف شيئًا عنه حقًا فلن يكون موجودًا.

لكن الفصلين الثاني والثالث المعنونين على التوالي ب (الموضوعية والصفة) و (العلاقة والجودة)، وهما فريدان من الدرجة الأولى وكذلك مثيران للقلق في نطاق تداعياتهما، وقد تسببان في جدل متقطع منذ ذلك الحين، وفي الشكل المعمم فإنّ حجة برادلي هي أنّ العلاقات (مثل أكبر من) غير مفهومة إما بشروط أو بدونها، وبالمثل فإنّ المصطلحات غير مفهومة سواء مع أو بدون علاقات، وبرادلي نفسه يقول عن الحجج التي يستخدمها لدعم هذا الخلاف:

“إنّ القارئ الذي اتبع مبدأ هذا الفصل واستوعبه لن يحتاج كثيرًا إلى قضاء وقته في من يخلفه، وسوف يرى أنّ تجربتنا حيث العلائقية ليست صحيحة، وكما سيكون قد أدان بدون سماع تقريبًا الكتلة الهائلة من الظواهر“.

من الواضح أنّ وجهات نظره حول العلاقات مثيرة للجدل إلى حد كبير ومركزية في فكره، وفي ضوء ذلك قد يبدو خطأ تكتيكيًا خطيرًا من جانب برادلي أن يقدم حججه بشكل سطحي وغير مقنع لدرجة أنّه حتى المعلقين المتعاطفين لم يجدوا سهولة في الدفاع عنه، بينما استطاع تشارلي دنبار برود (C. D. Broad) أنّ يقول لاحقًا: “إنّ الأعمال الخيرية تطلب منا صرف أعيننا عن المشهد المثير للشفقة لفيلسوف عظيم باستخدام حجة من شأنها أن تلحق العار بالطفل أو الهمجي”.

فلسفة برادلي لإثبات العقيدة والأصول الداخلية:

وعلى الرغم من أسلوب برادلي المقتضب والموجز يبقى من الصعب تبرير الأخطاء التفسيرية لمنتقديه، حيث ينشأ الانطباع بأنّ الحجج الميتافيزيقية الحاسمة لبرادلي لا تذكر جزئياً من قراءتها على أنّها مصممة لإثبات عقيدة الداخلية لجميع العلاقات أي إما:

1- قابليتها للاختزال إلى الصفات.

2- أو تمسكها بالضرورة اعتمادًا على الشعور (داخلي).

وفسّر راسل العقيدة بالطريقة السابقة، ومور في الثانية، وأيًا كان المعنى الذي نتخذه فهذه قراءة خاطئة ومستحيلة فإذا أخذنا داخليًا بمعنى راسل بسبب رفض برادلي للموضوع  فالحساب الأصلي للحكم باعتباره خاطئًا، ومع ذلك إذا استخدمنا إحساس مور بـ (داخلي) فإنّ القراءة مفهومة وإن كانت لا تزال غير مبررة، حيث في الفصل الثالث طبق برادلي هذه الكلمة بشكل محير على العلاقات بطريقة ميتافيزيقية بريئة لا علاقة لها بعقيدة الداخلية كما يفهمها مور.

بينما في أجزاء أخرى من المظهر والواقع يغازل علانية عقيدة الداخلية ولكن يتنصل منها بوضوح فقط في الأعمال اللاحقة التي لم تقرأ كثيرًا مثل المقالة المهمة (العلاقات) التي تُركت غير مكتملة عند وفاته ونشرت في مقالاته المجمعة عام 1935، وعلاوة على ذلك يرفض برادلي بشكل موحد حقيقة العلاقات الخارجية، ومن السهل وإن لم يكن حتميًا منطقيًا تفسير ذلك على أنّه التزام بمبدأ الداخلية.

تنشأ معالجة برادلي للعلاقات في الفصل الثاني بمناقشة مشكلة ما الذي يجعل وحدة الشيء الفردي؟ وكيف يمكننا أن نفهم حقيقة أنّ شيئًا واحدًا مثل قطعة من السكر قادر على الاحتفاظ بمجموعة من الخصائص المختلفة في وحدة كحلاوته وبياضه وصلابته؟ فلا يمكننا أن نفترض وجود مادة أساسية متميزة عن صفاتها لأنّ هذا من شأنه أن يلزمنا بوجود مفهوم عارٍ ومكشوف لشيء خالٍ من كل الصفات.

علاوة على ذلك فإنّ الصعوبة الأصلية المتعلقة بوحدة الشيء تُترك دون حل بهذه الخطوة حيث يصبح من الممكن التساؤل عما يربط الصفات بجوهرها، والبديل هو تصور الشيء على أنّه مجموعة من الصفات ولكن ما هي طبيعة الارتباط الأنطولوجي الذي يربطهم بوحدة الشيء؟ وهنا لقد تركنا مع مجموعة من الصفات المستقلة التي تشبه الجوهر وليس مع شيء فردي، وعند هذه النقطة تبرز مشكلة العلاقات بأهميتها الأنطولوجية الكاملة لأنّها تبدو الآن كما لو أنّ العلاقة وحدها هي التي يمكن أن توفر الصلة المطلوبة.

فلسفة برادلي في العلاقات:

وجهة نظر برادلي المدروسة في الفصل الثالث هي أنّه لا العلاقات الخارجية ولا الداخلية تمتلك قوة موحدة وبالتالي يجب رفضها باعتبارها غير واقعية، وهذا هو الاستنتاج الصحيح لمجموعة من الحجج المكثفة التي ينشرها كفريق واحد، ويستبعد بشكل منهجي المواقف المحتملة المتاحة لأولئك الذين قد يختلفون، وأحد الاعتبارات الحاسمة يعتمد على البصيرة القائلة بأنّ العلاقة هي أساس شروطها وكذلك المؤسسة عليها.

ويقول: “العلاقات يجب أن تعتمد على الشروط بقدر ما تعتمد على العلاقات”، ويُقال أنّ العلاقة تعتمد على شروطها لأنّها تتطلب فترتين على الأقل من أجل الوجود، والمصطلحات تعتمد على العلاقات لأنّها تتكون جزئيًا من العلاقات التي يقفون فيها مع بعضهم البعض (على الرغم من أنّ برادلي لا يقدم أي توضيح يمكن جعل هذا معقولًا من خلال النظر في ظلال مختلفة من اللون: الأزرق لن يكون أزرق إذا لم يكن أغمق من اللون الأصفر).

وبمجرد التعرف على ذلك يستمر برادلي في المجادلة، حيث يرى المرء أنّ المصطلح ذي الصلة A يتكون بالفعل من جزأين أحدهما يعمل كأساس للعلاقة (أ1)، والآخر يحدده (أ2)، وبالتالي يتضح أنّ كل مصطلح ذي صلة هو معقد علاقي، وفي هذه الحالة المحددة يتحول A إلى المركب س(أ1 ، أ2)، ويؤدي هذا إلى بدء الانحدار لأنّه وفقًا لنفس المنطق يجب أن يتكون (أ1) و (أ2) من جزأين متميزين وهكذا بدون نهاية.

ومع ذلك فإنّ عضو فريق برادلي للحجج التي جذبت أكبر قدر من الاهتمام الجدلي هو الذي يدعي أنّه إذا كانت العلاقة نوعًا آخر من الأشياء الحقيقية جنبًا إلى جنب مع شروطها (على سبيل المثال افترض راسل لاحقًا في نظرية العلاقات المتعددة الخاصة به من الحكم)، ثم ستكون هناك حاجة إلى علاقة أخرى لربطها بشروطها وهكذا إلى ما لا نهاية.

يتضح من هذه الحجة (التي هي سليل واضح لهجوم مبادئ المنطق على التحليل التقليدي للحكم)، وكذلك من تفسيره الخاص أنّ مصطلح (الحقيقي) بالنسبة له هو مصطلح تقني، حيث أن تكون حقيقيًا يعني أن تكون مادة فردية (بالمعنى الشائع في ديكارت وليبنيز وسبينوزا)، وبناءً على هذا الفهم فإنّ إنكار حقيقة العلاقات هو إنكار أنّها موجودة مستقلة، وهذه الحجة هي التي تفسر ردود الفعل مثل ردود فعل تشارلي دنبار برود على غرار الآخرين أخذ برادلي يفترض أنّ العلاقات هي نوع من الأشياء، في حين أنّ برادلي كان يجادل بنوع من الاختزال ضد هذا الافتراض ذاته.

توضح هذه الملاحظات أنّ برادلي يستخدم مصطلح (المظهر) بالمعنى الأنطولوجي كإشارة إلى ما يفتقر إلى الفردية الكاملة، وليس بالمعنى المعرفي كإشارة إلى ما هو موجود في موضوع ما، وبالفعل فهو لا يرغب في إنكار الحقيقة الواضحة المتمثلة في أننا نختبر تنوعًا غنيًا في الأشياء، حيث العلاقات والتعددية موجودة بمعنى ما وبالتالي تنتمي إلى الواقع.

إنّ إنكار حقيقة العلاقات لا يعني عدم وجودها المطلق، وبالأحرى استنتاجه هو أنّ العلاقات والمصطلحات يجب أن تُفهم على أنّها جوانب داخل كل شامل، فبدلاً من أن ينسب لبرادلي مبدأ الداخلية سيكون من الأفضل بالتالي رؤيته على أنّه يدافع عن نظرية (كلية) للعلاقات، وفي مواجهة راسل كان برادلي واضحًا تمامًا في هذه النقطة الأساسية:

“هذه هي العقيدة التي أدافع عنها الآن منذ سنوات عديدة، فالعلاقات موجودة فقط في ومن خلال الكل ولا يمكن في النهاية حلها في علاقات وشروط، (و – معًا – وبين، كلها في النهاية لا معنى لها بصرف النظر عن هذا الكل، ويؤيد السيد راسل الرأي المعاكس (كما أفهمه)، ولكن بالنسبة لي لا أستطيع أن أجد أنّ السيد راسل واجه السؤال حقًا”.

ومن المثير للاهتمام أن أحد الفلاسفة الذين واجهوا سؤال برادلي بشكل مباشر كان فيتجنشتاين (Wittgenstein) تلميذ بيرتراند راسل، ففي كتابه (Tractatus) والذي حاول تجنب تراجع برادلي عن طريق التخلص من العلاقات، بحيث كائناته وأهدافه البسيطة تدخل بالفعل في تكوين حقائق موحدة، ومع ذلك لا يلزم لوجود مبدأ ربط غريب: “في الحقيقة الذرية تتدلى الأجسام بعضها ببعض مثل روابط السلسلة”.

ومع ذلك فإنّ استعارة السلسلة لا تقدم إجابة حقيقية للمشكلة التي أثارها برادلي خاصةً في ضوء حقيقة أنّه من الواضح تمامًا أنّ ذرات فيتجنشتاين المنطقية الأنطولوجية يمكن القول إنّها تمتلك شكلاً، بحيث من المؤكد أنّها تختلف عن الذرات الديموقراطية في أنّها تفتقر إلى خصائص المواد، وعلاوة على ذلك لا يزال بإمكان برادلي أن يجادل في أنّ فكرة وجود كائنين مختلفين ولكن غير مرتبطين لا معنى لها.

الآثار المترتبة على معالجة برادلي للعلاقات ليست ميتافيزيقية فقط، بحيث هم أيضا ابستمولوجيون (وهو مصطلح يتعلق بنظرية المعرفة خاصة فيما يتعلق بأساليبها وصلاحيتها ونطاقها والتمييز بين الاعتقاد المبرر والرأي) ويعتقد البعض أنّ إنكار حقيقة العلاقات يرقى إلى التأكيد على أنّ جميع الأحكام العلائقية خاطئة، لذلك على سبيل المثال ليس صحيحًا أنّ 7 أكبر من 3 أو أنّ الهيدروجين أخف من الأكسجين، مثل هذا التفسير أصبح ذا مصداقية من خلال تفسير برادلي للحقيقة لأنّه على هذا الحساب لا يوجد حكم عادي صحيح تمامًا.

نتيجة لذلك بالنسبة لمن يقرأه تحت تأثير الافتراض المتأخر ولكن الذي عفا عليه الزمن بأنّ الحقيقة ذات قيمتين يبدو أنّ ادعاءه أنّ الأحكام العلائقية كلها خاطئة، ومع ذلك وفقًا لتقرير برادلي للحقيقة بينما للأغراض العادية من الصحيح أنّ 7 أكبر من 3 ومن الخطأ أنّ الأكسجين أخف من الهيدروجين، وبمجرد أن نحاول تلبية المتطلبات الأكثر صرامة للميتافيزيقا فإننا مضطرون إلى الاعتراف بأنّ الحقيقة تقبل درجات،و في حين أنّ الأول هو بلا شك أكثر صحة من الثاني فإنّه ليس صحيحًا تمامًا.

ومع ذلك فإنّ النقص حتى في أكثر هذه الأحكام صدقًا لا علاقة له بكونها علائقية وليست تنبؤية لأنّه  باعتقاد برادلي أنّ جميع الأحكام معيبة في هذا التمثيل لا يمكن أن تستمر إلّا على أساس الفصل في الفكر بين ما هو غير منفصل في الواقع، بحيث عندما نقول على سبيل المثال هذه التفاحات هي ذات طبيعة صلبة وحامضة فنحن لا نستخرج التفاح ضمنيًا من عبواتهم فحسب بل نفصل الصلابة والحموضة عن بعضهم البعض ونفصلهم عن التفاح نفسه.

وبالتالي يجب أن تكون الحقيقة الكاملة والمخلصة تمامًا للواقع، بحيث حقيقة لا تتجرد من الواقع على الإطلاق، وهذا يعني أنّه يجب أن يكون متطابقًا مع الواقع بأكمله وبالتالي لم يعد حتى حكمًا، والحقيقة النهائية عن الواقع من وجهة نظر برادلي لا يمكن وصفها حرفيًا ومن حيث المبدأ.

في النهاية هذا الاستنتاج الغامض هو الذي يفسر رفضه الشديد لمفهوم هيجل الشامل، حيث خلافًا لوجهة نظر هيجل في علم المنطق فإنّ الواقع ليس نظامًا من الفئات المنطقية المترابطة ولكنه يتجاوز الفكر تمامًا.


شارك المقالة: