بخلاء العرب
قِيلَ أنَّ بُخلاء العَرَب خَمسَة:
الحُطيئة، وحُمَيد الأرقَطِ، وأبو الأسودِ الدّؤليّ، وخالِدُ بن صفوان، ومادِرُ بن هِلال بن عامِر.
أنَاسٌ اشتهروا في البُخْلِ في تاريخ العرب، كما اشتهروا بأشياء أخرى، مثلِ الشِّعر كَما الحُطيئة، وعلم اللّغةِ والنَّحوِ مثل أبي الأسود الدّؤلي.
ومدارُ حدِيثِنَا هُنا، عن رجُلٍ اشتهرَ في تاريخِ العربِ ببُخْلهِ، على الرَّغمِ من قِلّةِ ما وردَ عنه من أفعال وأعمالٍ تُدلّلُ على بخلِهِ.
“مَادِرٌ”هذا هو رجُلٌ من بني هِلال بن عامرٍ بن صَعْصَعَة، ويقال له “مُخَارِق”.
وقِصّةُ بُخْلهِ التي اشتَهَرَ بها على ألسِنَةِ العرب، أنّّهُ كان يرعى إبِلاً لهُ، فَعَطِشَتْ تِلْكَ الإبل وقَدِمَ بها إلى حوْضٍ لِكَي يَسقِيهَا، فَشَرِبَت حتّى ارتَوتْ.
وبَقِيَ في قاعِ الحوضِ القليل من الماء، فقام وتَغوّطَ في هذا الحوض، ومَدَرَهُ (أي طَانَهُ ومسَحَهُ بيدهِ من الدَّاخِل)، بُخْلاً منه، حتى لا ينتَفعَ به من بَعدِه أَحَدْ، فَسُمِِّيَ لهذا مادِراً.
البُخْلُ عَادَةٌ ذَمِيمَةٌ قَبِيحة، تجعَلُ من صاحِبِها مَحَطَّ نظَرٍ من الناس كُلّها، للحديثِ فيما بينهم عن صِفَتِهِ القبيحة هذه.
معنى البخل
فإذا ما عُدْنَا إلى مَعَاجِمِ اللّغَةِ العربية، لنبحثَ فيها عن أصْلِ ومعنى كلمةِ البُخْل، فَنَجِدُ بأنَّها:
بَخِلَ الرَّجل: أي(ضَنَّ) بِما عنده من مَال.
وضَنَّ أي تَمسَّك به وحَرِصَ عليه.
وبَخِلَ عن: أي إمسَاك المال عمَّن لا يصِحُّ حبسَهُ عنه، وعكسِهِ الكَرَم والجُودْ. وأيضاً بمعنى أمسكَ ومَنَعْ.
لِذلكَ نَجِدُ أنَّ جَميعَ معاني البُخْلِ تُؤدِي إلى المَنْعِ والإِمسَاكْ.
وَلَقَد جَاء في كِتابِ رَبِّنَا آيَاتٍ عديدة، تَتحدَّثُ عَن صِفَةِ البُخْلِ وَتَذُمُّ صَاحِبَها، منها مَا قالَهُ عزَّ وَجَلّ في مُحْكَمِ التَّنزِيلِ:”ولَا يَحْسَبَنَّ الّذِينَ يَبْخَلونَ بِمَا آتاهُمُ اللهُ منْ فَضْلِهِ هُو خَيرَاً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُم سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَومَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيراثُ السَّمواتِ والأَرضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير” آل عِمران(180).
وَمِن هَدْيِ النَّبيِّ ـ صَلى الله عَليهِ وَسَلم ـ، أنَّهُ كَانَ يَتَعَوّذُ بِاللهِ دَائمَاً مِنَ البُخْلِ، لأنّهُ صِفَةٌ ذَميمَة، ذَمِيمٌ صَاحِبُهَا. فَكَانَ يَقولُ:”اللَّهمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ وَالكَسَلِ، وأعوذُ بِكَ مِن الجُبْنِ والبُخْلِ،وأعوذُ بِكَ مِن غَلَبَةِ الدَّينِ وَقَهْرِ الرِّجَال”.
وَكَانَ يقولُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ:” خِصْلَتَانِ لَا تَجْتَمِعَانِ فِي مُؤمِنٍ، البُخْل وَسُوء الخُلُق”.
لِذَلكَ بعدَ أنْ قَرأَنَا مَا جَاء في القُرآنِ والحَديثِ، ومَا جَاء مَعْنَاه عَلى لِسانِ العَرَبِ، نَجِدُ بأنَّ البُخْلَ عادةٌ قبيحَةٌ مَذمومَةٌ مكروهٌ صَاحِبُهَا، وهي مِن أَسوأِ الصِّفاتِ التي كَانَ يَكرهُهَا العَرَبِ في الجَاهِليَّةِ، وكانُوا يَعْتبِرونَها من الصِّفات التي تُقَلِّلُ مِنَ الرُّجُولَة.
ومِنْ ثَمَّ جاءَ الإِسلام وكَرِهَ هذهِ الصَّفةِ ونَهَى عنهَا، فَهَذَا الحَسَن بنُ عليّ بنُ أبي طَالب ـ رَضيَ الله عنهما ـ يقَول في ذلك:”البُخْلُ جَامِعُ المَسَاوئِ والعُيوبِ، وقَاطِعُ المَودَّاتِ منَ القُلوب”.
وكانَ التَّابِعيّ”بِشرُ بن الحَارثِ الأنصَاريّ” يقولُ:(البخيلُ لا غِيبةَ له)، فقد مُدِحَت إمرأةٌ عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقالوا (صوّامةٌ قوَّامة، إلّا إنَّ فيها بُخْلاً، قالَ: فَمَا خَيرُهَا إِذَنْ؟).
مِنَ البُخْلِ تَظهرُ صفةٌ هي أقبح من البُخلِ، أو قُلْ: هي أشدُّ وأقبحُ أنواعِ البُخلِ، ألا وهي الشُّحُّ أو الرَّجل الشَّحِيحِ.
لذلكَ ذكرَ( الكَفَويّ في كِتابهِ الكُلِّياتِ)، بأنَّ البُخلَ هو المَنعُ من مَالِ نفسهِ، والشُّحُّ هو بُخلُ الرَجلِ من مَالِ غيره.
وفَرَّقَ بينَ المَعْنَيَينِ هَذينِ، الصَّحابي عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فيمَا ذَكَرَهُ السُّيوطِيّ في كِتابهِ (الدُّرِّ المّنثُورِ)، حيثُ قال:” ليسَ الشَّحيحُ أنْ يَمنعَ الرَّجل مَالَهُ، ولكنَّهُ البُخل، وإنَّه لَشَرٌّ، إنَّما الشُّح أنْ تطمَعَ عينُ الرَّجلِ إلى ما ليس له”.
لذلك الإنسان الشَّحيح، هو شديدُ البُخلِ على نفسهِ، وبخيلٌ على عيالهِ، وبخيل على أهلِ حيِّهِ وأقارِبِهِ، وهوَ سَئُ المَعشَرِ.
ومن طَرِيفِ ما قيلَ في البُخلِ، ما قالَهُ الشَّاعرُ عُبيدُ بنُ حُصين النُّمَيرِيّ الذي كانَ يلقَّبُ (بالشَّاعرِ الرَّاعِي) لكثرَةِ وَصْفِهِ الإِبل، حيثُ قالَ أبياتاً ذَمَّ فِيها الشَّاعر الحُطَيئَة الّذي كان من بُخلاءِ العرب، فقال:
ألا قَبَّحَ اللهُ الحطيئةَ إنَّهُ ……………. على كُلِّ ضيفٍ ضافَهُ فهو سالِحُ
دَفَعتُ إليه وهو يَخنُقُ كلبَهُ ……………. ألا كُلُّ كَلبِ لا أبَا لَكَ نَابِحُ
بَكَيتَ على مَذْقٍ خبَِيثٍ قَرَيتَهُ ………….. ألا كُلُّ عبسِيٍّ على الزَّادِ نَابِحُ