اتسمت الفترة العباسية بتنوع كبير في الأشكال الشعرية التي عكست أحداث ذلك العصر، وبرز فيها العديد من الشعراء الذين حظوا بدعم ورعاية الحكام الذين شجعوا الشعر وأغدقوا العطايا على أهله. ومن أبرز هؤلاء الشعراء أبو نواس والمتنبي وغيرهم كثير.
نماذج شعرية في العصر العباسي
1- المتنبي: هو أديب مقتدر مشرقي الأصل تميز بشخصيته الغامضة، وشعر المتنبي غير واضح للمتلقي صعب عليهم فهمه، ومن هنا دعاه ابن رشيق بشاغل الناس، خلّف المتنبي موروث شعري كبير متنوع الأغراض تعد سجل تاريخي، ومن أبرز قصائده ” واحر قلباه ممن قلبه شبم” يقول المتنبي:
واحرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ
وَمَن بِجِسمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ما لي أكَتِّمُ حُبّاً قَد بَرى جَسَدي
وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدَولَةِ الأمَمُ
إن كانَ يَجمَعُنا حبٌّ لِغُرَّتِهِ
فليتَ أنَّا بِقَدْرِ الحبِّ نَقتسِمُ
قَد زُرتُهُ وسيوفُ الهندِ مُغمَدَةٌ
وقد نظرتُ إليه والسُيوفُ دَمُ
فَكانَ أحْسنَ خَلق الله كلِّهِمُ
وكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشِّيَمُ
فوتُ العدوِّ الذي يَمَّمْتُه ظَفَرٌ
في طيّه أسَفٌ في طيّه نِعَمُ
قد نابَ عنكَ شديدُ الخوفِ واصْطنَعَتْ
لكَ المهابةُ ما لا تَصنعُ البُهَمُ
ألزَمتَ نفسَكَ شيئاً ليس يَلْزَمُها
أن لا يوارِيَهمْ أَرضٌ ولا عَلَمُ
أكُلَّما رُمتَ جيشاً فانْثَنى هَرَباً
تَصرَّفَت بكَ في آثارِه الهِمَمُ
عليكَ هَزمُهُمُ في كلِّ مُعتركٍ
وما عليكَ بِهِمْ عارٌ إذا انهزَموا
أما تَرى ظَفراً حُلْواً سِوى ظَفَر
تَصافحَتْ فيه بيضُ الهِندِ واللمَمُ
يا أعدلَ الناسِ إلا في معامَلتي
فيكَ الخِصام وأنت الخصم والحكم
2- أبو نواس: الحسن بن الصباح وأبو نوّاس هي لقبه، وهو أحدُ أبرز أهل الشعر في هذه الفترة، ترعرع في الأهواز، واظب على مجالسة الأدباء والعلماء وتعلم منهم الكثير كما انهو تأثر بدخول العجم إلى بلاده وأخذ عنهم الكثير، ومن أشهر قصائده: ” دع عنك لومي فإن اللوم إغراء” يقول أبو نواس:
دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ
وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ
صَفراءُ لا تَنزَلُ الأَحزانُ ساحَتَها
لَو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتهُ سَرّاءُ
مِن كَفِّ ذاتِ حِرٍ في زِيِّ ذي ذَكَرٍ
لَها مُحِبّانِ لوطِيٌّ وَزَنّاءُ
قامَت بِإِبريقِها وَاللَيلُ مُعتَكِرٌ
فَلاحَ مِن وَجهِها في البَيتِ لَألَاءُ
فَأَرسَلَت مِن فَمِ الإِبريقِ صافِيَةً
كَأَنَّما أَخذُها بِالعَينِ إِغفاءُ
رَقَّت عَنِ الماءِ حَتّى ما يُلائِمُها
لَطافَةً وَجَفا عَن شَكلِها الماءُ
فَلَو مَزَجتَ بِها نوراً لَمازَجَها
حَتّى تَوَلَّدُ أَنوارٌ وَأَضواءُ
دارَت عَلى فِتيَةٍ دانَ الزَمانُ لَهُم
فَما يُصيبُهُمُ إِلّا بِما شاؤوا
لِتِلكَ أَبكي وَلا أَبكي لِمَنزِلَةٍ
كانَت تَحُلُّ بِها هِندٌ وَأَسماءُ
حاشا لِدُرَّةَ أَن تُبنى الخِيامُ لَها
وَأَن تَروحَ عَلَيها الإِبلُ وَالشاءُ
فَقُل لِمَن يَدَّعي في العِلمِ فَلسَفَةً
حَفِظتَ شَيئاً وَغابَت عَنكَ أَشياءُ
لا تَحظُرِ العَفوَ إِن كُنتَ اِمرَأً حَرِجاً
فَإِنَّ حَظرَكَهُ في الدينِ إِزراءُ
وقصيدة “وما أنس لا أنس يوم المغار” لأبو فراس الحمداني:
وَما أَنسَ لا أَنسَ يَومَ المَغارِ
مُحَجَّبَةً لَفَظَتها الحُجُب
دَعاكَ ذَوُوها بِسوءِ الفِعالِ
لِما لا تشاء وَما لا تحب
فَوافَتكَ تَعثُرُ في مَرطِها
وَقَد رَأَتِ المَوتَ مِن عَن كَثَب
وَقَد خَلَطَ الخَوفُ لَمّا طَلَع
تَ دَلَّ الجَمالِ بِذُلِّ الرُعُب
تُسارِعُ في الخَطوِ لا خِفَّةً
وَتَهتَزُّ في المَشيِ لا مِن طَرَب
فَلَمّا بَدَت لَكَ دونَ البُيوتِ
بَدا لَكَ مِنهُنَّ جَيشٌ لَجِب
فَكُنتَ أَخاهُنَّ إِذ لا أَخٌ
وَكُنتَ أَباهُنَّ إِذ لَيسَ أَب
وَما زِلتَ مُذ كُنتَ تَأتي الجَميلَ
وَتَحمي الحَريمَ وَتَرعى النَسَب
وَتَغضَبُ حَتّى إِذا ما مَلَكتَ
أَطَعتَ الرِضا وَعَصَيتَ الغَضَب
فَوَلَّينَ عَنكَ يُفَدَّينَها
وَيَرفَعنَ مِن ذَيلِها ما اِنسَحَب
يُنادينَ بَينَ خِلالِ البُيو تِ
لا يَقطَعِ اللَهُ نَسلَ العَرَب
أَمَرتَ وَأَنتَ المُطاعُ الكَريمُ
بِبَذلِ الأَمانِ وَرَدِّ السَلَب
وَقَد رُحنَ مِن مُهَجاتِ القُلوبِ
بِأَوفَرِ غُنمٍ وَأَغلى نَشَب
فَإِن هُنَّ يا اِبنَ السَراةِ الكِرامِ
رَدَدنَ القُلوبَ رَدَدنا النَهَب
وفي قصيدة ” إذا جددت نعمة لأمرئ” يقول ابن الرومي:
إذا جُددتْ نعمةُ لامرئٍ
فتكميلُها جدَّةُ العافيَهْ
وبالشكر قُدِّر تجديدُها
وللَّه بعدُ يدٌ شافيه
ولو صُفِّيتْ كان أصفى لها
ولكنَّ دُنيا الفتى جافيه
ولولا مُكدرةٌ رَنْقَةٌ
لما قُدِّرت قَدرَها صافيه
ولا بدَّ للمرءِ من محنةٍ
لفتنةِ نَعمائِه نافيه
ودولتُكم قد جرتْ ريحُها
مُسدَّدَةَ الجري لا هافيه
ولا بدَّ للريح من أن تكو
ن في بعضِ هَبَّاتها سافيه
فصبراً وعَافيةً غضّةً
وأمناً إلى مئةٍ وافيه
فداكُم من السوء ضدٌّ لكم
مخازيه باديةٌ خافيه
وليست بعاليةٍ حالُه
ولكنها جِيفة طافيه
ولولا كراهةُ إملالِكم
خطبتُ إلى آخرِ القافيه
ومن قول أبي نواس حين قرب أجله ما يلي:
اِلهِي لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ اَهلا وَ لاَ اَقْوَي عَلَي النَّارِ الْجَحِيْمِ
فَهَبْ لِي تَوْبَةً وَ اغْفِرْ ذُنُوْبِي فَاِنَّكَ غَافِرُ الذَنْبِ الْعَظِيْمِ
وَ عَامِّلْنِي مُعامَلةً الْكَرِيْمِ وَ ثَبِّتْنِي عَلَي النَّهْج الْقَوِيْمِ
إلّهَنَا مَا أعدَلَك مَلِيكَ كُلِ مَن مَلَك
لَبَيكَ قَد لَبَيتُ لَك لَبَيك لَا شَرِيكَ لَكَ
وَالَليلِ لَمَا أَنحلَك والسَابِحَاَت فيِ الفَلَك
عَلَى مَجَارِىِ المَنسَلَك مَا خَابَ عَبدٌ أَمَّلَك
أَنتَ لَه حَيثُ سَلَك لَولَاكَ يَا رَبِ هَلَك
كُلِ نَبِى وَمَلَك يَا مُخطِئاً مَا أعقَلَك
عَجِل وَبَارِز أَجَلَك وَاختِم بِخَيرٍ عَمَلَك
لَبَيكَ إن الحَمدَ لَك وَالعِز لَا شَرِيكَ لَك
ذُنُوْبِي مِثْلُ اَعْدَادِ الرِّمَالِ فَهَبْ لِي تَوْبَةً يَا ذَا الْجَلالِ
وَ عُمْرِي نَاقِصٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَ ذَنْبِي زَائِدٌ كَيْفَ احْتِمَالِي
اِلهِي عبْدُكَ الْعَاصِي اٰتَاك مُقِرًا بِالذُّنُوْبِ وَ قَدْ دَ عَاكَ
اِنْ تَغْفِرْ وَ اَنْتَ لِذاكَ اَهْلٌ وَ ِانْ تَتْرُدْ فَمَنْ نَرْجُو سِواكَ
وقصيدة أبو نواس في الفخر:
ومستعبـدٍ إخوانـَه بثـرائه
لبـستُ له كبراً لأبرَّ على الكبرِ
إذا ضمَّـني يوماً وإياه محفِـلٌ
رأى جانبي وعراً يزيد على الوعر ِ
أخالفه في شكله، وأجـِرُّه
على المنـطق المنـزور والنظر الشزر
وقد زادني تيهاً على الناس
أنني أرانيَ أغناهم وإن كنتُ ذا فقر
فو الله لا يـُبدي لسانيَ حاجةً
إلى أحدٍ حتـى أٌغَيـّبَ في قبري
فلا تطمعـنْ في ذاك مـنيَ سُوقـةٌ
ولا ملكُ الدنيا المحجبُ في القصر ِ
فلو لم أرث فخراً لكانت صيانتي
فمي عن سؤال الناس حسبي من الفخر ِ
وقال أيضًا مادحًا آل البيت:
مطهرون نقيات ثيابهم
تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علويا حين
تنسبه فما له في قديم الدهر مفتخر
والله لما برا خلقا فأتقنه
صفاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى
وعندكم علم الكتاب وما تأتي به السور
وأبيات أبو العتاهية مادحًا هارون الرشيد:
إِمامَ الهُدى أَصبَحتَ بِالدينِ مَعنِيا
وَأَصبَحتَ تَسقي كُلَّ مُستَمطِرٍ رِيّا
لَكَ اسمانِ شُقّا مِن رَشادٍ وَمِن هُداً
فَأَنتَ الَّذي تُدعى رَشيداً وَمُهدِيّا
إِذا ما سَخِطتَ الشَيءَ كانَ مُسَخَّطاً
وَإِن تَرضَ شَيئاً كانَ في الناسِ مَرضِيّا
بَسَطتَ لَنا شَرقاً وَغَرباً يَدَ العُلا
فَأَوسَعتَ شَرقِيّاً وَأَوسَعتَ غَربِيّا
وَوَشَّيتَ وَجهَ الأَرضِ بِالجودِ وَالنَدى
فَأَصبَحَ وَجهُ الأَرضِ بِالجودِ مَوشِيّا
وفي النهاية نستنتج أن الفترة العباسية تميزت بالكثير من الأشكال الشعرية التي تحكي مجريات تلك الفترة وتميز فيه العديد من أهل الشعر وشجع عليه ولاة الأمر وأجزلوا العطايا لأهله، ونذكر منهم أبو نواس والمتنبي وغيرهم الكثير.