تمتعت الأندلس بطبيعةٍ خلابةٍ، واهتم الأندلسيون بمظاهر الطبيعة بجميع تضاريسها، وأبدعوا في وصفها وتصويرها بأجمل الصور، فهي الملهم الأول لشعراء الأندلس، كانت تحفزهم على نظم أروع الشعر بمكوناتها الخلابة، ولم يغفل الشاعر الأندلسي عن ذكر طيور الرياض والبساتين في الأندلس ورياضها وبساتينها التي هي مرتعًا واسعًا لجميع الأطيار، ولقد تم ذكر حمام الأندلس في أشعار الشعراء، وفي هذا المقال سنتناول شعر وصف الحمام في الأندلس بالشرح والتوضيح.
وصف الحمام في الشعر الأندلسي
تطرق الشاعر الأندلسي في شعره إلى ذكر الحمام الأندلسي، فأبدع في ذلك ورسم الحمام في شعره بأجمل الصور التي تنبض بالحياة والحركة، وقد عكس الشعراء مشاعرهم وعواطفهم وحال الأندلس مع وجود الحمام في طبيعته الخلابة، ومن أهم هذه الصور النابضة بالحياة ما يلي:
1- الحمام جزء مهم من أجزاء الطبيعة الأندلسية
ما زال الشاعر الأندلسي يرسم لنا أجمل وأروع الصور بأجمل الألوان، فهذا الشاعر ابن خفاجة يرسم لنا أجمل الرسومات، ويوظف صور الحمام الساحرة التي ترتع في رياض وبساتين الأندلس وتضفي على الأجواء نوعًا من اللهو والمرح فيقول:
سقيًا ليوم قد أنخت بسرحة
ريا تلاعبها الرياح فتلعب
سكرى يغنيها الحمام فتنثني
طربا ويسقيها الغمام فتشرب
يلهو فترفع للشبيبة راية
فيه، ويطلع للبهارة كوكب
والروض وجه أزهر، والظل فر
ع أسود، والماء ثغر أشنب
في حيث أطربنا الحمام عشية
فشدا يغنينا الحمام المطرب
وفي مشهد آخر من المشاهد التي صورها الشاعر الأندلسي للحمام في صورة مبدعة، وهو يرتع في أرجاء الطبيعة الخلابة، ويجول في أحضان مجالس اللهو والسمر، وكان تغريده وألحانه الشجية مصدر للسعادة، فيقول ابن سفر في وادي المرية الموجود في مدينته:
واشرب على شدو الحمام فإنه
أشهى إلي من الغريض ومعبد
أتراه أطربه الخليج وقد رأى
تصفيقه تحت الغصون الميّدَ
وكأنهن رواقص من فوقه
وبها من الأزهار شبه مقلد
في هذه الأبيات الشعرية السابقة صور لنا الشاعر تغريد الحمام وهي تشدو بأجمل الألحان لها أثر في أذن السامع لها، ويطرب بسماعها وتكون عنده أفضل من سماع غناء أشهر مغني المدينة، وفي لوحةٍ فنيةٍ رائعةٍ يتناول فيها الشاعر ابن خفاجة الحمام وهو عنصر من عناصر الطبيعة الخلابة ويقول:
بحديقة مثل اللَّمى ظلاَّ بها
وتطلعت شنبا بها الأنوار
رقص القضيب بها وقد شرب
الثرى وشدا الحمام وصفَّق التيار
غنّاء ألحف عِطفها الورق
الندي والتف في جنباتها النوّار
فتطلعت في كل موقعٍا لحظةٍ
من كل غصنٍ صفحة وعذارُ
2- الحمام محرك للمشاعر ومثير وجداني ومنبه للذكريات
من المعروف عن الشعر الأندلسي أن الذكريات والمشاعر والأحاسيس سواء أكانت حزينة أم مفرحة جميعها متعلقة بالطبيعة الأندلسية، فهي تتراقص على أنغام وشدو الحمام، وتتمايل مع ميل أغصان الرياض والبساتين.
وقد عرف منذ القدم وفي الشعر العربي كذلك ربطهم بين تغريد الحمام وإثارة الذكريات والآلام الحزينة، غير أن الشاعر الأندلسي اختلف عنهم في طريقة الربط والنتائج المترتبة على هذا الربط.
وقد تميز الشاعر الأندلسي وتفنن في رسم المعالم والجزئيات المستحسنة، ومن هذه الرسومات الشعرية تلك اللوحة التي كان للحمام دور فيها كمنبه للذكريات الجميلة في خاطر الشاعر، ويبث البهجة والسرور في نفسه، حيث يقول:
ونشوان غنته حمامة أيكه على
حين طرف النجم قد هم أن يكرى
فهب وريح الفجر عاطرة الجنى
لطيفة مس البرد طيبة المسرى
وطاف بها والليل قد رث برده
وللصبح في أخرى الدجى منسكب
يعرى ويصغى إلى لجن فصيح يهزه
كما هز نشر الريح ريحانة سكرى
قد صورت قصائد الشعراء الأندلسيين الجانب السعيد والمبهج ورسمت أجمل لوحات الفرح والمرح والسرور من حياة أهل الأندلس في أحضان الطبيعة الخلابة، ولكن يبقى هناك جانب آخر في حياة شعراء الأندلس تأثر بصورة الحمام وهو الجانب الحزين فيكون فيه الحمام منبهًا للذكريات سواء أكان شوقاً للمحبوب والأهل، أو الحنين إلى المدن التي ابتعدوا عنها، ومن هذه الجوانب الحزينة ما يلي:
1- الحمام ومشاعر الشوق إلى المحبوب: عرف عن الحمام في الشعر العربي القديم ارتباطه الوثيق بالفراق والبعد، وذلك لأن صوت الحمام دائمًا ما يثير الحزن والشجون، ويلهب الجوى، ويجدد المشاعر، اتخذ الشاعر في هذه الصور من أحضان الطبيعة وبساتينها وأشجارها وأغصانها المتمايلة وعاءً واسعًا لحمله كل مشاعر وأحاسيس الشوق واللوعة والحنين عند مفارقتهم للمحبوب والأهل ويقول في ذلك الشاعر:
رب ورقاء هتوف بالضحى
ذات شجون صدحت في فنن
ذكرت إلفا ودهرا صالحا
فبكت حزنا فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها
وبكاها ربما أرقني
وهنا يظهر أن الشاعر قد ألزم للحمام صفات من صفات الإنسان، فجعله يرى الشاعر وهو يبكي فيبكي ذلك الحمام لبكائه، ويشاركه أحزانه، وصور لنا الشاعر هذه الصور الفنية بأسلوب متقن، وتوجه الشاعر الأندلسي إلى يقوم بالوصف للحمام بشكل مادي من حيث الشكل الخارجي ومن حيث الألوان، ويصور مدى التناغم معه، وفي ذلك يقول الشاعر:
وما هاجني إلا ابن ورقاء هاتف
على فنن بين الجزيرة والنهر
مفستق طوق لا زورد كلكل
موشى الطلى أحوى القوادم والظهر
2- الحمام مشاعر الشوق للوطن والأهل: لعب الحمام دورًا رئيسيًا وفعالًا في هذا الجانب، فهو منبه لمشاعر الحنين والشوق للأهل والوطن، وهذا ابن زيدون يستمع إلى شدو الحمام التي تثير في داخله مشاعر الشوق والحنين إلى الأهل والوطن بعد أن تم إبعاده عن مدينته، ويقول:
وأرق العين والظلماء عاكفة
ورقاء قد شفَّها اذ شفَّني حَزن
فبتُّ أشكو وتشكو فوق أيكتها
وبات يهفو ارتياحًا بيننا الغصن
3- الحمام كرمز ديني:
توجه بعض الشعراء إلى اعتبار أن الحمام رمز يعبر فيه عن عواطفهم ومشاعرهم الدينية، وهنا نرى أبو إسحاق الإلبيري يربط بين نوح الحمام وبكاء التائب عن ذنوبه ويقول:
أحمامة البيدا أصلت بكاك
فبحسن صوتك ما الذي أبكاك؟
أن كان حقًا ما ظننت فإن بي
فوق الذي بك من شديد جواك
إني أظنك قد دهيت بفرقة
من مؤنس لك فارتمضت لذلك
لكن ما أشكوه من فرط الجوى
بخلاف ما تجدين من شكواك
4- الحمام باعتباره عنصر أساسي في بناء القصيدة
اهتم شعراء الأندلس بالحمام وفتنوا بها ومن مظاهر هذا الاهتمام كان عنايتهم الشديدة لذكر الحمام باعتباره عنصر أساسي من عناصر الطبيعة، فكان الحمام يتصدر مطالع القصائد ويفتتح الشاعر بها قصيدته عوضًا عن الأطلال.
تصدر ذكر الحمام مطالع القصائد في جميع أغراض الشعر سواء أكان في شعر المدح أو شعر الغزل وغيره من القصائد، مثل قول ابن خفاجة في مطلع قصيدته مادحًا فيها الأمير أبي إسحاق:
شجعت وقد غنى الحمام فرجعا
ولم ادر ما ابكي أرسم شبيبة
عفا أم مصيفًا من سليمى ومربعا
زمان تقضى غير عهد محاسنٍ
وفي النهاية نستنتج أن شعراء الأندلس رسموا أجمل اللوحات للحمام وتميزوا في هذا الرسم وأبدعوا فيه، وقد وظفوا صور الحمام في جميع أغراض الشعر.