أمرٌ إلهيٌّ صَريح بعَدَمِ تَتبّع ما أُخفِيَ عنك عَمْداً، دَفَعكَ الفُضولُ إلى ذلك، تَجاهَلتَ الأمرِ الرّبّاني وبَحثتَ واحتَلتَ وحَصلتَ في النّهاية على الحقيقة، سَتُدركُ أخيراً بأنَّ جَهْلكَ بها كان نِعمة، لقد كانت سَوأةَ أحَدهِم، حجبها الله عنكَ؛ ولكنّكَ كَشَفتهَا وأفسَدَّتَ أمرَاً كان مستوراً؛ فإنّكَ بذلك تجاوزتَ أمرَاً إلهيَّاً نهى الله تعالى عنهُ في كِتابهِ حيثُ قال”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ” (12)
معنى التَّجَسُّس
التَّجَسُّس مُشتقٌّ من الجَسِّ؛ جاء في لسان العَربِ لابن منظور، بأنّه : جَسُّ الخَبر، ومنه التَّجسُّس . وجَسَّ الخَبر وتجَسَّسهُ: بحثَ عنه وفَحَصَهُ؛ وهو التَّفتِيشُ عن بَواطِنِ الأمُور، وأكثر ما يُقالُ في الشَّر .
، وقال البَغَويّ: هو البحث عن عُيوب النّاس، وقد نهى الله تعالى عن البحثِ عن المَستُور من أمورِ الناس وتَتبّع عَوراتهِم حتى لا يَظهُر على ما ستره الله منها. وقال ابن الجَوزيّ:” قال المُفَسّرُون: التَّجسُّس؛ البحث عن عيبِ المسلمين وعوراتهم، فالمعنى لا يبحث أحدكم عن عيبِ أخيه لِيَطَّلع عليه إذا ستره الله.
فهذا عمر بن الخطاب، وهو غَنيّ عن التَّعريفِ به، والإشَادَة بِغِيرَتهِ، وشِدّتهِ في الحقّ، فهو المَعروفُ بالفَاروق، وهو يَومئذٍ أمير المؤمنين، ومعهُ صَاحبه عبد الرحمن بن عوف، أحد العشرة المَبَشّرين بالجنة، وهم من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يَجري على عادتهِ في شوارعِ المدينة المنورة يبحثُ عن جَائعٍ ليُطعِمهُ، أو عَارٍ ليَكسُوه أو مُحتاج فَيقضِي حَاجَتهُ، فبينما هُم يَمشُون ليلاً شَبَّ لهم سِراج في بيتٍ فانطلقا إليه، حتى إذا اقتَربا منه؛ فإذا ببابٍ مُجافٍ ومفتوح قليلاً على قوم، فيه أصوات مرتفعة ولَغَطْ، فقال وقد أخذَ بيدِ صاحبه عبدالرحمن بن عوف: أتدري بيت من هذا؟ قال: لا. قال: إنه بيت فُلان بن فُلان، وهُم الآن يَشرَبون أي سُكَارى من شُرب الخَمر؛ فما تَرَى؟ قال: أرَى أنّا قَد أتَينَا ما نَهانا الله عنه، فَقد نَهانا الله عن التَّجَسُّس فقال (ولا تَجَسُّسوا) ونحن فقد تَجَسَّسنا، فانصرف عنهم وتركهم.
عُمر وعبدالرحمن_ رضي الله عنهما_؛ لَمْ يَخرُجَا تَقَصُّدًا لهَتكِ عَوراتِ المسلمين، ولكنهما لمْ يجِدَا إلا جماعة مِمّن يشربون الخَمر خُفيةً، يُومِضُ سِراجهُم خلف بَابهِم، فَلمْ تُخوِّل لعمر رضي الله عنه، مَكانته في أعلى هرمِ السُّلطة أنْ يَقتحِمَ عليهم مَنزِلهُم ويكشفُ سِترَهم، ولم يَدُر في خَلَدهِمَا تَزكية الله لهما ولا تبشِيرهُما بالجنة، ولم يَتَأوّل أحد منهما آيات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ليُوقِع بمن وقعَ في معصيةِ الله وهو سَاترٌ لنفسه، ولم يتفرد عمر_رضي الله عنه_ بهذا لوحدهِ، بل هو مَنهَج سَلَف هذه الأمّة؛ وقد نهى القرآن الكريم عن ذلك في أكثر من مَوضعٍ عن ذلك، حيث قال تَعَالَى” وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا. وقد تحدّثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ، ولاَ تحسَّسوا وَلا تَجَسَّسُوا وَلا تَنَافَسُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ. المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ وَلا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هاهُنَا التَّقْوَى هاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَعِرْضُهُ، وَمَالُهُ. إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إِلَى أجْسَادِكُمْ، وَلا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وأعْمَالِكُمْ».
وَفِي رواية أخرى جاء: «لا تَحَاسَدُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَجَسَّسُوا، وَلا تَحَسَّسُوا، وَلا تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوانًا».
وقولهِ صلى الله عليه وسلم “إنّكَ إنْ اتَّبَعتَ عَورات النَّاس أفسَدّتهُم أو كِدّت أنْ تُفسِدهُم“.
إنَّ المُجتمع الذي يُريدُ إيجَادهُ الإسلام، مُجتمعٌ قد سَما بنفسه عن سَفاسِفِ الأمور، وعن كُلّ ما يُوجِبُ الضَّغينَة، فالتَّجسُّسُ يُورِثُ العَداوة، ويُوقِدُ نار البَغضاء والشَّحناء؛ مَنهَج رَبَّانيّ أمَرَ بسَترِ المُسلمين وتَركِ تَتبّعِ عَوراتهِم، وأمرَ بِصيانَةِ حُرمة المسلم عن الفَضيحَة التي من شأنها أنْ تُذهِب مَاء الحَياء من الوجهِ، وليس هناك أحَداً مَعصُوماً عن ارتكابِ الخَطايا والمَعاصِي، فما مِن أحَدٍ إلا وبينه وبين ربِّهِ ما لا يَعلمُهُ إلا هُو، فلا يكون ورَاء التَّتبُّعِ والتَّجسُّس إلا الفضيحة والإفساد؛ فَبَدلِ التّجسّس لا بُدَّ من الإكتِفاءِ بالنُّصحِ حفاظاً على سَترِ الأعراضِ، التي رتّبَ الله على سَترهَا سَترُه؛ حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم “من سَترَ مُسلماً سترهُ الله يوم القيامة”.