وصف ابن عبد ربه للمسجد النبوي:
يعد وصف ابن عبد ربه أشمل وأدق وصف معروف حتى الآن، حيث أن صاحبه قد ركز على ما شاهده ورأه بعينيه، دون الدخول في متاهات الروايات التاريخية المتباينة وما ينتج عنها بطبيعة الحال من تضارب الآراء ومحاولة ترجيح كفة إحداها على الأخرى، وعلى ضوء ذلك يحق لنا أن نعتبر مشاهدات ابن عبد ربه بمثابة وصف فني شامل ومركز يحوي بين دفتيه العديد من الحقائق والتفاصيل الدقيقة للمسجد النبوي الشريف، وهو الأمر الذي لا نجده بهذا الشكل المفصل والواضح فيما كتب عن المسجد في المصادر المختلفة قبل ابن عبد ربه.
كذلك تجدر الإشارة إلى حقيقة أخرى فحواها أن ابن عبد ربه قد عبر عن مشاهداته بالمصطلحات الفنية الشائعة والمتداولة في أقطار الغرب الإسلامي، وهو أمر له دلالته لمن يتصدى لدراسة المصطلحات الفنية للعمارة الإسلامية عامة وفي المغرب والأندلس خاصة.
كما أن أهمية وصف ابن عبد ربه تتجلا في نقطتين رئيستين: الأولى التخطيط المعماري للمسجد ومفرداته المختلفة، الثانية الكسوات الزخرفية.
التخطيط المعماري للمسجد ومفرداته المختلفة:
تتجلى أهمية مشاهدات ابن عبد ربه ووصفه لعمارة المسجد النبوي الشريف فيما ذكره عن تخطيط المسجد عامة وتخطيط مقدمة وما يشتمل عليه من عناصر ومفردات خاصة، ويمكن القول أن التخطيط العام للمسجد النبوي الشريف قد احتفظ وقت زيارة ابن عبد ربه له أي قبل عام 317 هجري/ 929 ميلادي بصورته النهائية التي كان عليها عقب عمارة الخليفة المهدي العباسي فيما بين عامي 162-165 هجري/ 778-781 ميلادي.
وهذا التخطيط كان عبارة عن صحن أوسط مكشوف ومقدم ومؤخر، أما الصحن فكان يطل عليه عقود البائكات الأربع وقد وصفها ابن عبد ربه بالحنايا (العقود أو الأقواس)، حيث أن من داخلها مزخرفة بخشب منقش، كما أنه كان يغشى داخل هذه العقود أحجبة خشبية ذات زخارف محفورة، وقد كانت هذه الأحجبة من خشب الساج كما ورد في المصادر سواء قبل ابن عبد أو بعده.
لعل ما ورد هنا ينفي ما أشار إليه ابن رسته من أن عقود بائكة مقدم المسجد هي التي كانت مشدودة بالساج فحسب، ويؤكد ذلك أيضاً أن المصادر المتأخرة قد أيدت ما ذكره ابن عبد ربه.