أوفى من السموأل

اقرأ في هذا المقال


على الرغم من اختلاف الشعوب عبر العصور والأزمنة، وتطور لغة وآداب الإنسان من عصر إلى عصر، ومن حديث إلى أحدث، غير أن الأمثال الشعبية والفصيحة بقيت مرتبطة بالإنسان ومستمرة، فنجد الأمثال على إيجازها وخفتها رفيقة الإنسان في المواقف والأحداث المختلفة، تصوّرها وتصفها وصفًا دقيقًا، وهي الأمثال ذاتها التي استخدمها الآباء والأجداد، دون تطور أو تقدم، إنما تُعدّ عند الكثيرين مرآة للحكمة وملاذًا يلجأ إليه المرء عند الحاجة، فإما أن يكون استخدامها للاتعاظ بها، أو لتوجية النصح للآخرين.

من هو صاحب مثل أوفى من السموأل؟

قائل المثل هو “السمؤال بن غريض بن عادياء الأزدي”، والسموأل شاعر جاهلي، وقد كان من أتباع الديانة اليهوديّة، وهو حكيم من حكماء العرب القدماء المشهورين، ويرجع اسمه إلى اللغة العبرية، فالسموأل اسم عبري معرّب ويلفظ بالعبرية “شمويل أو صاموئيل” ومعناه الظّل، وقد عاش هذا الشاعر في الخمسين عامًا الأولى من القرن السادس الميلادي، وهو من يهود خيبر، عاش في خيبر، وكان كثير الترحال بين خيبر وبين الحصن، والذي بناه جده عادياء والذي أسماه الأبلق، وقد وصل من شعرِه القليل، وهو الرجل الذي تُنسب إليه قصة الوفاء المعروفة مع امرئ القيس، وهذا المقال سيتحدَّث عن السموأل من جوانب عدّة.

قصة مثل “أوفى من السموأل”:

أما مثل “أوفى من السموأل”، فللشاعر السموأل قصة وفاء معروفة، جعلته مضربًا للمثل في الوفاء، وقد اتخذت منها العرب مثلًا شاع وانتشر بين القبائل، وهذا المثل يُضرب لشدة الوفاء، ويعود سرّ هذا المثل، إلى قصة الشاعر مع الشاعر الكندي امرئ القيس، وتقول الحكاية إنّ امرأ القيس حين أراد أن يلحق بقيصر؛ ليطلب منه المساعدة ليأخذ بثأر أبيه المقتول، أودع دروعه وحاجياته عند السموأل ثم رحل، ولما سمع أحد ملوك الشام بموت امرئ القيس، توجّه إلى السموأل وطلب إليه أن يسلّمه ما أودعه امرؤ القيس عنده، فرفض تسلميه ما لديه من حاجيات صاحبه.
كان للسموأل ولد كان قد خرج من الحصن، فقبض عليه الملك الذي طالب بحاجيات امرئ القيس، ثم قال للسموأل: “هذا ولدك بين يدي، وأنت تعلم أنّ امرأ القيس هو ابن عمي ومن عشيرتي، وأنا أحق بميراثه، فإنْ دفعت إليّ الدروع فيها، وإلا قتلت ولدك”، فأبى السموأل أن يعطيه ما يريد، وقال: “ليس إلى دفع الدروع سبيل، فاصنع ما أنت صانع”، فذبح الملك ابنه أمامه وهو ينظر لذلك، ثم انتظر الشاعر إلى أن أتى ورثة امرئ القيس الحقيقيون؛ فأعطاهم حاجيات امرئ القيس، فأصبحت العرب تضرب المثل بالوفاء بالسموأل، الذي فضّل أن يموت ابنه قتلًا أمامه، على أن يعطي الملك أمانة أودعها أحد عنده، وقال شعرًا في هذه الحادثة:
“وفيت بأدرعِ الكنديِّ إني إذا ما خانَ أقوامٌ وفيتُ وقالوا إنه كنزٌ رغيبٌ ولا والله أغدر ما مشيتُ”

تأثر الشعراء بوفاء السموأل:

لقد تأثر الشعراء بوفاء السموأل الذي لا مثيل له، ومن هؤلاء شاعرنا العربيّ، صاحب إحدى المعلقات العشر، “ميمون بن قيس” الملقب بالأعشى، والذي كتب قصيدة طويلة عن حادثة الوفاء تلك، وقال فيها:
“شُرَيْحُ لا تَتْرُكَنّي بَعْدَ مَا عَلِقَتْ            حِبالَكَ اليَوْمَ بَعْدَ القِدّ أظْفارِي
قَدْ طُفْتُ ما بَينَ بَانِقْيَا إلى عَدَنٍ          وَطالَ في العُجْمِ تَرْحالي وَتَسيارِي
فكانَ أوْفاهُمُ عَهْداً، وَأمنَعَهُمْ              جاراً أبوكَ بعرفٍ غيرِ إنكارِ
كالغيثِ ما استمطرتْهُ، جادَ وابلهُ         وعندَ ذمتّهِ المستأسدُ الضّاري
كنْ كالسموأل إذْ سارَ الهمامُ لهُ          في جحفلٍ كسوادِ اللّيلِ جرّارِ
جارُ ابن حيّا لمنْ نالتهُ ذمتهُ                أوْفَى وَأمْنَعُ مِنْ جَارِ ابنِ عَمّارِ
بالأبْلَقِ الفَرْدِ مِنْ تَيْمَاءَ مَنْزِلُهُ               حصنٌ حصينٌ وجارٌ غيرُ غدّارِ
إذْ سامَهُ خُطّتَيْ خَسْفٍ، فَقالَ له:         مهما تقلهُ، فإنّي سامعٌ حارِ
فَقالَ: ثُكْلٌ وَغَدْرٌ أنتَ بَينَهُما            فاخترْ وما فيهما حظٌّ لمختارِ
فشكّ غيرَ قليلٍ، ثمّ قالَ لهُ:            اذبحْ هديَّكَ إني مانعٌ جاري
إنّ لهُ خلقاً إنْ كنتَ قاتلهُ                وَإنْ قَتَلْتَ كَرِيماً غَيرَ عُوّارِ
مالاً كثيراً وعرضاً غيرَ ذي دنسٍ             وإخوةً مثلهُ ليسوا بأشرارِ
جَرَوْا عَلى أدَبٍ مِنّي، بِلا نَزَقٍ              ولا إذا شمرتْ حربٌ بأغمارِ
وَسَوْفَ يُعقِبُنيِهِ، إنْ ظَفِرْتَ بِهِ               ربٌّ كريمٌ وبيضٌ ذاتُ أطهارِ
لا سرُّهنّ لدينا ضائعٌ مذقٌ                وكاتماتٌ إذا استودعنَ أسراري
فقالَ تقدمةً، إذْ قامَ يقتلهُ:                أشرفْ سموألُ فانظرْ للدّمِ الجاري
أأقتُلُ ابْنَكَ صَبْراً أوْ تَجيءُ بِهَا              طَوْعاً، فَأنْكَرَ هَذا أيَّ إنْكَارِ
فشكّ أوداجهُ والصّدرُ في مضضٍ          عليهِ، منطوياً كاللّذعِ بالنّارِ
واختارَ أدراعهُ أنْ لا يسبّ بها              وَلمْ يكُنْ عَهْدُهُ فِيهَا بِخَتّارِ
وَقالَ: لا أشْتَرِي عاراً بمَكْرُمَةٍ              فاختارَ مكرمةَ الدّنيا على العارِ
وَالصّبْرُ مِنْهُ قَدِيماً شِيمَةٌ خُلُقٌ             وزندهُ في الوفاءِ الثّاقبُ الواري”.


شارك المقالة: