مفهوم المثل:
لعل من أكثر فروع الثقافة ثراء هي الأمثال، إذ تجسد الأمثال تعبيرًا وتصوّرًاعن نتاج تجارب الأشخاص الطويلة والتي تنتهي إلى العبرة والحكمة، ومجموعة الأمثال تكوّن ملامح الفكر الثقافي الذي يحمل سمات ومعايير خاصة، فالأمثال إذن جزء مهم من ملامح المجتمع وأسلوب حياته ومعتقداته ومعاييره الأخلاقية، وقد أُلّفت في الأمثال العديد من الكتب والمجلدات، في العصور القديمة والمتأخرة، ولا ننسى أن المثل له تأثير مهم وكبير على سلوك الناس، فالمعنى والغاية يجتمعان في كل أمثال العالم، وهذه الأمثال على اختلافها تعبر عن تاريخ وفكر الأمم.
المثل ما هو إلا لون أدبي يعبر بشكل طريف المنحى عن ثقافات ومخزون الشعوب، وهو ذو فائدة عظيمة، بتلخيصه التجارب الإنسانية، والتي تتردد على ألسنة الناس بشكله اللطيف الموجز، وهذا كله مع كون شعبية المثل قد مكنته من احتلال موقع جليل في نفس قائله وسامعه، وجعلت له مكان الصدارة، من حيث الأهمية والتأثير بين سائر فنون النثر الشعبية.
في معاجم وكتب اللغة نجد الكثير من التعريفات للمثل، غير أن جميـعها لا تخرج عن أنه: ” قول مأثور، تظهر بلاغته في إيجاز لفظه وإصابة معناه، قيل في مناسبة معينـة، وأُخذ ليقال في مواقف مثل تلك المناسبة “، وقد كان إدراك العرب لأهمية الأمثال، سواء كانت فصحى أم شعبية جليًا وواضحًا، فقاموا بجمعها، وحرصوا عليها، والأمثال حكم شعبية شفهية مجهولة القائل، وهي واسعة الانتشار بين العامة والخاصة.
قصة حول أصل مثل عذر أقبح من ذنب:
هذا المثل ” عذر أقبح من ذنب”، رُويت العديد من القصص التي تدور حول الموقف الأصلي لشيوعه، لعل أشهرها أنه في قديم الزمان وفي بلاد الأندلس تحديدًا، إذ يُروى بأن واحدًا الملوك، أعلن في عامة الشعب، بأنه إذا أتى أحدهم بعذر أقبح من ذنب، فهو سوف يكافئه مكافأة مجزية، حيث تقدم الكثير من العامة، غير أن أحدًا لم يستطيع أن يأتيه بعذر أقبح من ذنب، وفي يوم من أحد الأيام الربيعية، حيث النسيم العليل، وحين كان الملك جالسًا في حديقة قصره، غفت عينه وذهب في النوم، وبينما هو نائم، جاء خادمه وقام بتقبيله، فاستيقظ الملك غاضبًا، وأمر أن يُجلد الخادم مئة جلدة على فعلته وجرأته على تقبيل الملك.
تُرى هل كان هناك عذر للخادم؟ نعم، إذ قال الخادم للملك: يا سيدي، أنا مظلوم، لم أكن أعرف بأنك أنت النائم، فقد حسبت أن الملكة هي النائمة هنا، وليس أنت، حينها استشاط الملك غضبًا، وقال له: ويحك تريد أن تقبل الملكة؟ فأمر الملك أن يُعدم هذا الخادم، عندها قال الخادم للملك: يا سيدي، ها أنا قد أتيتك بعذر أقبح من ذنب، فأنا عندما أذنبت وقمت بتقبيلك، أمرت بجلدي وعندما أتيتك بعذر أمرت بإعدامي، إذًا أنا أتيتك بعذر أقبح من ذنب ذلك الذي اقترفته، لذلك فإنني أستحق الجائزة، وبالفعل سامحه الملك على ذكائه ودهائه، وأمر أن تصرف له جائزة على عذره الذي كان أقبح من ذنب، وقد صار المثّل شائعًا في الأشعار وبين عامة أهل الأندلس، وفي القرن الثاني عشر ميلادي أو السادس هجري، ومن ذلك ما قاله الشاعر: وكم مذنب لما أتى باعتذاره جنى عذره ذنبًا من الذنب أعظما.
قصة أخرى للمثل، تحمل ذات المضمون، فمثل: “رب عذر أقبح من ذنب”، يقول الرواة فيه: إن “هارون الرشيد” طلب إلى الشاعر “أبي نواس” في إحدى ليالي السمر أن يعطيه مثالًا يوضح كيف من الممكن للمرء أن يعتذر عن ذنب ارتكبه بما هو أقبح من الذنب نفسه، فوعده “أبو نواس” أن يعطيه هذا المثال على أن يمهله بضعة أيام، وبعد أن مرت أيام عدة، رأى “أبو نواس هارون الرشيد” واقفًا عند نافذة يتأمل جمال الحديقة أمام قصره، فاقترب منه بخفة وغافله وضربه بلطف على ظهره، فالتفت إليه “هارون الرشيد” ويده على مقبض سيفه، وقال له غاضبًا: ويح أمك، كيف تجسر على فعل ما فعلت؟ فقال: “أبو نواس“: لا تغضب يا مولاي، فلقد ظننتك سيدتي زينب، فاستشاط “هارون الرشيد” غضبًا، وقال: ويلك أيها الفاسق القبيح، وهل تجسر على أن تفعل مثل ذلك مع سيدتك؟ فرد عليه: “أبو نواس” قائلاً : يا مولاي، هذا هو المثال الذي طلبته مني على العذر الذي يكون أقبح من الذنب، فضحك “هارون الرشيد“، وعفا عنه.