نظرات في مقدمة سورة النساء:
قال تعالى :{يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ..} صدق الله العظيم [النساء: 1] ومعنى قوله تعالى: {ٱتَّقُواْ رَبَّكُم ..} صدق الله العظيم [النساء: 1] أي- اجعلوا بينك وبين الله وقاية، كيف أفعل لأتقي الله تعالى ؟
بداية التقوى أن تؤمن به رباً، وتؤمن أنّه إله بقلبك وبعقلك، إنّه – سبحانه – يعرض لك القضية القلبية والعقلية للناس فيقول تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ..} صدق الله العظيم [النساء: 1] ولم يقل في الآية: اتقوا الله، لأنّ الله مفهومه العبادة، فالله معبود له نواهٍ وله أوامر ، فالناس لا زالت في مرتبة الربوبية، والرب تعني: المتولي تربية الشيء، في الخلق من عدم وإمداداً من العدم، لكن أليس من الأولى في حق المتولي الذي خلق الشيء، وتربيته أن يجعل له قانون صيانة له؟
ونحن نشاهد الآن أنّ كل صانع أو مخترع يضع لاختراعه أو للشيء الذي أخترعه قانون صيانة، هل من المنطق أن يخلق الله سبحانه الخلق من عدم وبعد ذلك يتركهم ليفعلوا كما يشاؤون؟ أم يقول لهم: الله افعلوا كذا وكذا ولا تفعلوا كذا وكذا، لكي تقوموا بمهمتكم فى هذه الحياة؟ إنه يضع دستور الدين للإيمان به فقال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ ..} صدق الله العظيم[النساء: 1].
إذن فخلقكم من نفس واحدة – والمعنى من آدم عليه السلام – وخلق منها زوجها، والمقصود به خلق حواء عليها السلام من ضلع آدم علي السلام أي من نفس آدم عليه السلام، وقد احتج جماعة من العلماء بقول النبى صلى الله عليه وسلم: “إنّ المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها”
قوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ..} صدق الله العظيم [النساء: 1] نشاهد عظمة الأسلوب عند قوله {وَبَثَّ ..} [النساء: 1] أي “نشر” لا بد أن نقف عند كلمة “نشر” لأنّ الخلق لا بد أن ينتشروا في الأرض، كي يأخذوا من خيرات الله التي خلقها لهم.
فالله حينما يقول: {وَبَثَّ مِنْهُمَا ..} صدق الله العظيم [النساء: 1] أي من آدم عليه السلام وحواء {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً ..} صدق الله العظيم [النساء: 1] جاء بقوله “نساء” فلم يقل: كثيرات لماذا؟ لأنّ من العادة أن تكون الذكورة أقل في العدد من الأنوثة.
فقوله تعالى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ..} [النساء: 1] لأنّ النشر في نواحي الأرض يكون خاصاً بالرجل، فالله يقول: { { فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ .. } صدق الله العظيم[الجمعة: 10]، والله يقول: { فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِه .. } [الملك: 15]، والأنثى في العادة تجلس في بيتها وبيت زوجها تديره لتكون سكن، والرجل هو الذي يتحرك في هذا الكون، وهي بذلك تؤدّي مهمتها.
ويختم الله تعالى الآية بقوله: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} صدق الله العظيم [النساء: 1] لأن كلمة {ٱتَّقُواْ ..} [النساء: 1] تعني اجعل بينك وبين غضب الله وقاية بتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه قال تعالى : {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} صدق الله العظيم [النساء: 1]، وكلمة (الرقيب) من كلمة “رقب” إذا نظرت ويقال: أيضاً “مرقب”، ونجد مثل هذا المرقب في المناطق التي تحتاج إلى حراسة ومتابعة ، فمعنى هذا أن هناك من يرصده، فالله يقول: {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء: 1] فليس الله علينا بصيراً فقط ولكنّه أيضاً رقيب.
قوله تعالى: (وَآتُواْ ٱلْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ ٱلْخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ) صدق الله العظيم
و {ٱلْيَتَامَىٰ} جمع يتيم ويطلق على الذي مات أبوه وهو صغير، وهو مأخوذ من اليتم وتعني الانفراد، في الآية أمر الله جل وعز إيتاء اليتامى أموالهم، ولكنّه يشترط هنا في ذلك شرطاً، ولقد بين بعد هذا أنّ هذا الإيتاء المطلوب به مشروط بشرطين:
الشرط الأول: وصول اليتامى إلى مرحلة البلوغ.
الشرط الثاني: إيناس الرشد، وذلك في قوله تعالى: { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 6] وجاء تسميتهم يتامى في أكثر من موضع، وجاء باعتبار يتمهم الذي كانوا به قبل البلوغ، ولا يتم اليتم بعد البلوغ إجماعاً.
وقال بعض العلماء: معنى قوله: (إيتائهم أموالهم) أي- إجراء الكسوة والنفقة وزمن الولاية عليهم، وهناك رأي قال به أبو حنيفة : إذا بلغ خمساً وعشرين سنة أعطي ماله على كل حال. لأنه يصير جداً، ولا يخفي عدم اتجاهه، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} صدق الله العظيم، ذكر في هذه ظاهر الآية الكريمة أنّ أكل أموال اليتامى (حوب كبير) أي: الإثم العظيم، ولم يأتي بيان مبلغ هذا الذنب الكبير من العظم، ولكن هناك آية بينت في موضع آخر وهو قوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَامَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا } صدق الله العظيم [النساء: 10]، في ظاهر الآية تأمر في التعامل مع اليتيم بأن يبدأ الولي في اختباره وتدريبه على إدارة أمواله من قبل بلوغ سن الرشد، وهنا تأمر بأن لا ينتظر الولي وقت أن يصل اليتيم إلى حد البلوغ، فلا بد أن تجرب اليتيم في مسائل جزئية فإذا اتضح له اهتداء منه وحسن تصرف؛ يأتي الحكم جاهزاً، فلا تضطر إلى تأخير إيتاء المال.
فسبحانه يقول: {وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً ..} [النساء: 6]، فعندما يعرف الوصي أنّ اليتيم قد استطاع أن يدير أموال بنفسه يعطيه ماله، ولا يجوز له أن يأكل الوصي من مال اليتيم .. وكلمة الإسراف تعني الزيادة في الحد؛ لأنّه ليس ماله، إنّه مال اليتيم. ونجد الحق يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ ..} صدق الله العظيم.
إن الله سبحانه وتعالى يُحذرنا من الإسراف في مال اليتيم في مرحلة ما قبل الوصول إلى سن الرشد، وكل ذلك خوفاً أن يكبر اليتيم وله عند وليه شيء من المال ولا يجوز للولي أن يسرف فينفق مال اليتيم قبل أن يرشد ويكبر اليتيم، وهذه الآية لا تدل على منع الفقير النزيه صاحب الإيمان والخبرة و من الولاية.
وجاءت سورة النساء تعالج الضعف الذي عند المرأة والضعف الذي عند اليتيم، لأنّ المجتمع الذي جاء عليه الإسلام كانوا لا يورثون النساء ولا يورثون الأطفال الصغار، وكانت القاعدة المشهورة: (مَنْ لم يذد عن حريم ولم يشهد معارك أو عن مال فلا يجوز له أن يأخذ من التركة، وهذه قمّة استضعاف أقوياء لضعفاء. فالإسلام جاء ليلغي هذه القاعدة. بل فرض وأوجب أن تأخذ المرأة حقوقها كاملة وكذلك الأطفال.