تُعتبر وقعة دير الجماجم من أطول وأشرس الثورات التي حدثت في زمن الخلافة الأموية في عام (83) هجري، وحدثت في منطقة تُسمى دير الجماجم بين البصرة والكوفة، استطاع الحجاج بن يوسف الثقفي القضاء فيها على ثورة ابن الأشعث.
أحداث وقعة دير الجماجم
كانت الثورة تتقدم إلى العراق، ووصل الخبر إلى أمير خراسان المهلب أبي صفرة، وكتب إلى ابن الأشعث يمنعه من مقاتلة الحجاج ويحذره من إراقة دماء المسلمين، كما كتب المهلب إلى الحجاج بن يوسف الثقفي يحذره من أخذ زمام المبادرة لمحاربة عبد الرحمن ورفاقه.
قام المهلب بتحذير الحجاج بن يوسف الثقفي لأن أهل العراق قوم أشداء لهم شدة في بداية أمرهم وضعف في نهايته، كتب الحجاج إلى عبد الملك في الأمر يطلب منه توفير الدعم لقمع الثورة، واستجابة لطلب الحجاج قام عبد الملك بإرسال العديد من الجنود والأموال إليه.
لقد انحاز أهل العراق إلى صف الثورة حتى أصبحت كبيرة جدا وأصبح العدد الإجمالي لجيش ابن الأشعث (33) ألف فارس و (120) ألف جندي، وقع الاشتباك المسلح الأول بين جيش الثورة وجيش الحجاج، وانتصرت الجبهة الثورية وقتلت عددًا كبيرًا من جيش الحجاج وذلك في العاشر من ذي الحجة (81) هـ.
ولما وصل الخبر إلى الحجاج ندم لأنه لم يسمع نصيحة المهلب، ولأنه لم يتبع ولذلك قرر إعادة جنوده إلى معقله في البصرة لإعادة ترتيب زمام الأمور والهجوم مرة أخرى، فاندفع ابن الأشعث وراء الحجاج بجيشه الضخم بسرعة كبيرة، فهرب الحجاج من البصرة، فدخل ابن الأشعث على البصرة، وخطب بقومها وحثهم على محاربة الظالمين وطلب منهم مساعدته لمقاتلة الخليفة عبدالملك بن مروان في الشام فوافقه أهل العراق في رأيه من ضمنهم علماءها وفقهائها، وعظمت خطبته وكلامه وعظم أمر الثورة.
جمع الحجاج جيشه وقرر مهاجمة جيش ابن الأشعث في البصرة، وبالفعل في عام (82) هـ بمحرم اشتبك الجيشان بشدة، وقتل الكثير من الجيشين حتى ركع الحجاج وقال: “ما كان أكرم مصعب بن الزبير حتى صبر نفسه للقتل”.
وكانت قوة ابن الأشعث تنبع من مساعدته ودعمه من قبل الفقهاء والعلماء والقراء الذين بينوا ولائهم في الثورة وشاركوا في المعركة وكانوا الأشد ضراوة في المعركة، وكان شعارهم غي المعركة “يا تارات الصلاة” لأن الحجاج كان يؤجل صلاته حتى ينتهي وقتها، أما القتال فاستمر طوال اليوم حتى أسر الأمير الفارس في جيش الحجاج سليمان بن الأبرد قائد الجيش الثوري وقتلهم فاختلط الناس ببعضهم البعض، فقام ابن الأشعث بالهروب والدخول إلى الكوفة.
فقام أهل الكوفة بمبايعة عبد الرحمن بن الأشعث، مما دعمه وبدأ بتنظيم الجيش، وصان الحدود والطرق والمسارات، وعسكر ابن الأشعث وجيشه في منطقة دير الجماجم حيث بلغ عددهم نحو (200) ألف، أما جيش الحجاج فقد عسكر في منطقة دير قرة وبقي الجيشان ينتظران ببعضهما البعض وقتًا طويلًا ليبدأ أحدهما الهجوم.
بقي الجيشان في موقعهما وقتًا طويلًا، وأصبح أعداء الدولة الإسلامية يتربصون من بلاد ما وراء النهر نتيجة تشتت المسلمين، وهذا الأمر أجبر الخليفة الأموي في دمشق عبد الملك بن مروان بأن يقوم بإرسال أخاه محمدًا وابنه عبد الله وأن يحملوا رسالة للثائرين يقول فيها: “إن كان يرضيكم خلع الحجاج عنكم خلعناه، وجعلنا مكانه محمد بن مروان، وأن يكون عبد الرحمن بن الأشعث أميرًا على أي بلد يحب”.
لم يعجب هذا الأمر الحجاج وغضب كثيرًا وحذره من غدر أهل العرق وأكبر دليل على ذلك عندما وثق عثمان بن عفان بهم وعزل سعيد بن العاص عن ولايتهم ولكنهم لم يكتفوا بذلك وفي نهاية العام ذهبوا إليه ودبروا مكيدة من أجل القضاء عليه والقيام بقتله.
عندما وصل العرض لابن الأشعث وافق عليه وخطب بأهل العراق وطلب منهم قبول العرض بما فيه من منافع كثيرة كعزل الحجاج الظالم وحقن دماء المسلمين وزيادة الغنائم وأخذه للولاية التي يريدها لكن أهل العراق رفضوا ذلك ولم يقبلوه ظنًا منهم أن عبدالملك بن مروان قام بذلك ضعفًا منه.
وعندما رفض الثوار عرض عبد الملك، قام بالحد من مسؤوليات الحجاج وأمره بمواصلة القتال، ثم تبنى الحجاج سياسة صارمة وحازمة، وتمسك بقراراته، وقام بتقليل معارضيه واتبع سياسة الصبر، ولكن إمدادات الجيش قد تضاءلت، ومات الكثير من الجنود جوعا.
انقضت سنة الفقر وبدأت سنة جديدة وهي (83) هـ، وفي ذلك العام كان الجيشان تحدث بينهما العديد من المعارك، حتى مرت فترة من الزمن أن الجيش يتقاتلان مع بعضهما كل يوم، وأحيانًا كان ينتصر مجموعة من هذين الجيوش ضد الآخر والعكس صحيح، حتى أن جيش ابن الأشعث قد أرهق على أهل الشام وهم جيش الحجاج حيث قاموا يهزيمتهم بضع وثمانين مرة، ولكن الحجاج لم يستسلم وبقي راسخًا في مكانه، وصبر على هذا الأمر.
نهاية وقعة دير الجماجم
كان الحجاج رجلًا ذو حنكة سياسية كبيرة ويمتلك دهاءً كبيرًا، حيث كان في كل مرة يتقاتل فيها مع جيش الأشعث يتقدم قليلًا قليلًا وكان لا يترك المكان الذي يتقدم إليه، وبعدما نجح بذلك قرر القيام بفكرة قد تنهي هذه الثورة فعلاً حيث أمر جنوده بالانقضاض مرة واحدة على المكان الذي يتواجد فيه القراء وركز على تكثيف الهجوم على هذه الكتيبة حتى قتل عددًا كبيرًا منهم.
وكان هذا سبب هزيمة باقي الجيش الذي انزعج نظامه وتحطمت صفوفه وفروا في كل اتجاه، وهرب ابن الأشعث من أرض المعركة فتبعه الحجاج هو وجيشه فأمسك بهم وقتل بعضهم وأسر بعضهم الآخر وبقي وراءهم لتحرير البلاد والأراضي التي دخلت في طاعة ابن الأشعث، وفر ابن الأشعث وآخرين معه إلى بلاد ملك سجستان رتبيل ودخلوا بلاطه، فأكرمه وولاه على مجموعة من جيشه لرد الكرة للحجاج لكن جهودهم لم تنجح وعاد عبد الرحمن بن الأشعث إلى الملك رتبيل وعاش عنده.
بقي الحجاج بلحق بمن كان تحت طاعة ابن الأشعث وقتل كل من أمسك به حتى أنه توجد رواية أنه قد قتل بين يديه حوالي (130) ألفًا وكان آخرهم هو سعيد بن جبير، وأرسل الحجاج إلى رتبيل يهدده إن لم يقم بتسليم ابن الأشعث له وقال:“والله الذي لا إله إلا هو، لئن لم تبعث إليَّ بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل وأخربنها”، فوافق رتبيل على طلب الحجاج بشرط أن لا يقربه ولا يقاتله لعشرين عام، إضافة إلى تقليل الخراج ليصبح مئة ألف، فوافق الحجاج على شروطه وبالفعل قام رتبيل بالغدر بابن الأشعث وقطع رأسه وإرساله إلى الحجاج وهنا تتبين عاقبة من يظن بالكفار خيرًا ويلجأ لهم.
وهكذا انتهت ثورة التغيير التي كانت واحدة من أطول الثورات التي واجهها العالم الإسلامي والتي لم تجني فائدة واحدة للمسلمين، وتركت ورائها آلاف القتلى وأضعفت قدرة الأمة بسبب تدمير أراضيها وقتل أبنائها، وبقي الظلم على نفسه لم يتغير شيء، وذلك لأن الأمة انحرفت عن أمجادها السابقة، وأصبحت تسعى فقط من أجل الانتقام من الضغائن القديمة.