تاريخ إيطاليا أثناء حكم اللومبارديون

اقرأ في هذا المقال


لم تكاد تمضي سنوات قليلة على استسلام آخر القوات القوطية في شمال إيطاليا، القائد البيزنطي “نارسيس”، أو على وفاة الإمبراطور “جستنيان العظيم”، في عام 565 ميلادي، وبعد أن اطمأن على سيطرة قواته على شبه الجزيرة الإيطالية، حتى تعرضت إيطاليا لغزو اللمبارديون، والذين تركوا أثراً واضحاً في كيانها السياسي ونظمها الاجتماعية، وقوانينها العامة والخاصة.

حكم اللومبارديون لإيطاليا:

لقد كان اللومبارديون آخر الشعوب الجرمانية التي اقتحمت الإمبراطورية الرومانية، واستقرت داخل أراضيها، فقد أقاموا في القرن الأول عند وادي نهر الأودر، والجزء الأدنى من نهر الألب، حتى تحركوا جنوباً بعد قليل ثم ما لبثوا إلى أن ظهروا في بانونيا في أوائل القرن السادس ميلادي، حتى دخلوا في صراع رهيب مع جيرانهم من الشعوب الجرمانية مثل الجباتي، وخرجوا منتصرين من هذا الصراع في عام 567 ميلادي، وذلك بفضل تحالفهم مع عنصر الآفار، والذين خلفوا الخراب في الأجزاء الشرقية والوسطى من أوروبا.
إلا أن اللومبارديون لم يشكلوا في هذه المرحلة خطراً على الإمبراطورية، بل عملوا كجنود مرتزقة في جيوش جستنيان، حتى أن الجزء الأكبر من الجيش البيزنطي الذي عمل تحت قيادة نارسيس في إيطاليا، لطرد القوط الشرقيين كان مؤلفاً من اللمبارديين، ولم تلبث الظروف أن تجعل من اللومبارديين قوة خطيرة تهدد الإمبراطورية، وذلك بعد اتحاد قبائلهم تحت زعامة ملك واحد، وكان ذلك في الوقت الذي اضطروا فيه، تحت ضغط الأفار إلى الجلاء عن بانونيا، وهنا تلفت اللومبارديون حولهم، فلم يجدوا بلداً أصلح لهم وأقرب إليهم من إيطاليا.
وهكذا بدأت جموع اللومبارديين تتدفق إلى إيطاليا، في عام 568 ميلادي، وذلك تحت زعامة ملكهم “ألبيون”، في الوقت التي كانت فيه الإمبراطورية البيزنطية تحت حكم جستين الثاني، وكانوا في حالة لا يسمح لهم بإرسال جيش، لصد هذا الخطر، لذلك تركز الدفاع عن إيطاليا ضد الخطر اللومباردي في المدن المحصنة، ذات الأسوار المنيعة، إلا أن هذه المدن لم تستطيع الصمود أيضاً، حيث لم يمضي عام حتى انتشر اللومبارديون في سهول نهر البو، واستولوا على فيرونا وميلان، دون أن يصادفوا أي مقاومة جديدة من الأهالي أو الحامية البيزنطية.
ومن ثم استطاع اللومبارديون إخضاع بافيا، بعد حصار دام ثلاثة سنوات، واتخذوها عاصمة مملكتهم الجديدة التي أخذت منه هذا الوقت في الاتساع السريع، حيث أن مقتل ألبوين أثناء حركات اللمبارديين لم تؤثر في موقفهم وقوتهم، فقد استطاع أشراف اللومبارديين وزعماء قبائلهم التفوق على القوات البيزنطية التي كانت ضعيفة، وأنزلت بهم الهزيمة القسوى حتى قاموا بالاستيلاء على مدينة تسكانيا والأجزاء الوسطى من إيطاليا، بالإضافة إلى السهول الشمالية من إيطاليا، التي ما تزال يطلق عليها اسم اللومبارديين إلى اليوم.
ولم يكن الغزو الجرماني أول الغزوات التي تتعرض لها إيطاليا، حيث أنها تعرضت لكثير من الغزوات، إلا أن الفرق أن الشعوب الرومانية التي غزت إيطاليا من قبل، لم تنتزع كل الأراضي من أصحابها الرومان، بينما قد اكتفت باغتصاب مساحة تتراوح بين ثلث الأراضي ونصفها، وقامت بترك الأراضي لباقي السكان الأصليين، أما اللومبارديون، فقد قاموا بالاستيلاء على جميع الأراضي المفتوحة وقاموا بإنزال الملاك الأصليين إلى مرتبة التبعية.
كما أذاقوا الفلاحين كثيراً من الضغط والجور، وعلى الرغم من أن يوجد ما يثبت ذلك الضغط على الفلاحين، إلا أن اللومبارديون امتازوا عن غيرهم من الشعوب الجرمانية، بشدة تعصبهم لنظمهم وتقاليدهم الجرمانية وتمسكهم فيها، وربما كان السبب في ذلك، أنهم دخلوا إيطاليا فاتحين وليس حلفاء معاهدين للإمبراطورية الرومانية، حيث أنه لم تكن هناك روابط تربطهم بالحضارة الرومانية، كما كان الحال مع قبائل القوط من قبل، بالإضافة إلى اعتناقهم للمذهب الأريوسي، وقلة عددهم بالنسبة لأهالي البلاد من جهة أخرى.
ممّا جعلهم ذلك شديدي التعصب لأصلهم الجرماني ونظمهم الجرمانية، ومن أمثلة هذا التعصب الواضحة أن الملكية اللومباردية ظلت انتخابية، في حين أصبحت فيما بعد وراثية، في جميع ما عداهما من الممالك الجرمانية، وقد وجد موريس إمبراطور الدولة البيزنطية، أن مقاومة الغزو اللومباردي لإيطاليا غير مجدي، فلجأ إلى وسيلة أكثر نفعاً من الناحية العملية وهي إعادة تنظيم الإدارة الإمبراطورية في إيطاليا.
وذلك على أساس إقامة نظام الدوقيات في روما وبيروجيا ونابلي وكالبريا وبجوريا، بحيث تخضع كلها للنائب الإمبراطوري في رافنا، وكان النائب الإمبراطوري يجمع في يده السلطتين الحربية والمدنية، وكذلك كان الدوقيات في كلاً في دوقيته، حتى يتمكن الجميع من مواجهة تهديد اللمبارديين.
وأهم ما يتم ملاحظته على الأملاك البيزنطية في إيطاليا في ذلك الوقت هو تناثرها وعدم ارتباطها؛ ممّا جعل أباطرة القسطنطينية يشعرون بعجزهم عن مواجهة الموقف، ويطلبون المساعدة من الفرنجة ضد اللومبارديون، وفي ذلك الوقت سعى ملك اللومبارديون “أوتاري”، على توحيد قواهم تحت سيادته، حيث بدأ يوجه جهوده نحو حرب الفرنجة وصد خطرهم، كما حدث أمر هام في عهد الملك أوثاري، حيث قام بالزواج من أميرة كاثوليكية، وهي ابنة دوق بافاريا، ممّا جعل الملك أو ثاري يعتنق المسيحية وانتشر ذلك بين اللومبارديون في القرن السابع.
وبعد حكم أوتاري جاء “أجلولف”، وحكم اللومبارديون في عام 590 قبل ميلادي، ومن حسن حظَّه انشغال الفرنجة بالمنازعات الداخلية عن اللومبارديون؛ ممّا ساعده ذلك على انتزاع اراضي جديدة من أملاك الدولة البيزنطية في إيطاليا، وقد تم عقد اتفاقية يترأسها البابا “جريجوري” العظيم في عام 568 قبل الميلاد، بين اللومبارديون والإمبراطورية البيزنطية، إلا أن نائب الإمبراطور في إيطاليا، نقض تلك الاتفاقية؛ ممّا ألحق خسائر فادحة في الإمبراطورية.
وقام تم انتزاع بادوا ومانتوا في عام 602 ميلادي، والتي كانت آخر معاقل البيزنطية في حوض البو، ومع تلك الأخطار التي هددت الإمبراطورية، لجأ الإمبراطور فوقاس إلى شراء مسالمة اللومبارديون مقابل تعهده بدفع جزية سنوية ضخمة لهم، وقد تعرض اللومبارديون في عهد ملكهم “أجيلولف”، إلى المتاعب والثورات الداخلية، عدا عن التهديدات الخارجية التي تواجه دولتهم إلى جانب الآفار والأسلاف على الحدود الشمالية الشرقية.
وعلى الرغم من ذلك، إلا أن ذلك العصر يمثل دور النضج بالنسبة اللمبارديين وحضارتهم في إيطاليا، إذا أخذوا بعد استقرارهم في وطنهم الجديد واعتناقها المسيحية الغربية، يهتمون ببناء الكنائس ويتصرفون نحو الكثير من المشاريع السلمية.
وقد تم في عهد الملك روثاي والذي يعد أهم الملوك اللمبارديين، إتمام غزو شمال إيطاليا، وانتزاع المنطقتين اللتين كانا تحت سيطرة البيزنطيين، وهما منطقة ليجوريا الممتدة من نيس إلى لونا، وبما فيها مدينة جنوا العظيمة والمنطقة المحيطة بمدينة أودرزو الموجودة على شاطئ البندقية، ولم يحصل روتاري على هذه الجهات، إلا بعد جهد عنيف وقتال شاق ضد البيزنطيين، الذي انتهى بانتصاره عليهم بعد أن حملهم خسائر فادحة.
ولم تكن أهمية روثاي في التاريخ إلى انتصاراته فحسب، بل أن شهرته ترجع وبشكل كبير، إلى شكل القانون اللومباردي ونظمه، فقام في عام 643 ميلادي، بإصدار مجموعة من القوانين العرفية الخاصة بالشعب اللومباردي، والتي لم يسبق تدوينها من قبل، والتي كانت تصور بصورة بدائية حياة الشعب الجرماني، الذي كان يعيش على الفطرة وسط الأحراش والغابات، وقد تناول أيضاً المسائل المتعلقة بالفدية والتزامات الأتباع نحو سادتهم، وتنظيم حقوق الوراثة، دون أن تحوي شيئاً عن حياة الحضر والكنيسة.
وبعد أن فرغ البيزنطيون من حروب هرقل ضد الفُرس والعرب، حاولوا في عهد الإمبراطورية قنسطانز الثاني، في عام 641 ميلادي، أن يقفوا موقفاً قوياً تجاه اللومبارديين في إيطاليا، وقد استغلوا حالة التفكك والانقسام التي كان فيها اللومبارديين، بعد وفاة ملكهم روتاري في عام 52 ميلادي، على إحياء نفوذ الإمبراطورية، وإرجاع ما فقدته من الإمبراطورية في شبه الجزيرة الإيطالية.
وقام بعد ذلك البيزنطيين بمهاجمة اللومبارديون، إلا أن اللومبارديون اتحدوا، ونج الغزو اللومباردي في القضاء على الوحدة الإيطالية وبقيت إيطاليا مقسمة، مجرد اصطلاح جغرافي، دون أن تكون لها وحدة سياسية تعمل على تنظيم أمورها، وبذلك أصبحت إيطاليا مُقسَّمة بين ثلاثة قوى، هي: اللومبارديون والبابوية والدولة البيزنطية.


شارك المقالة: