إسهامات رايت ميلز في علم الاجتماع:
شغل رايت ميلز كرسي أستاذ علم الاجتماع في جامعة كولومبيا ولعل تأثيره في علم الاجتماع في الوقت الراهن أعظم بكثير من تأثيره أثناء حياته، بل أن هذا التأثير لا يزال في تزايد مستمر، ويرجع ذلك إلى تحليله للأوضاع الاجتماعية بصفة عامة، والأوضاع الاجتماعية في أمريكا بصفة خاصة، تحليلاً يقترب من الصحة.
كما أن الموضوعات التي كرس لها انتباهه منذ الخمسينات تبدو الآن في صورة أكثر حدة والواقع أن عناوين مؤلفاته تعكس المسائل الأساسية في المجتمع المعاصر على حد قوله، ومن أهمها طبقة ذوي الياقات البيضاء، وصفوة القوة وأسباب الحرب العالمية الثالثة والخيال السوسيولوجيي والماركسية.
وتشهد تحليلاته لهذه الموضوعات عن مدى وعيه وإدراكه ﻷهميتها في المجتمع، كما أن إسهامات ميلز في الفكر السوسيولوجي، والنظرية السوسيولوجية تتناثر في كثير من كتاباته، ولكن يمكن الاطلاع عليها باستفاضه في كتاب القوة والسياسة والمجتمع، الذي حرره هورفيتش.
وقد عرض نظرية في كتاب اشترك في تأليفه مع هانز جيرث، وهو الشخصية والبناء الاجتماعي، واستخدم مفهوم الدور الاجتماعي كمفهوم مركزي للمجتمع، ويراه كبناء يتكون من عدد كبير من الأدوار التنظيمية، كما يمكن تحليل البناء الاجتماعي الكلي إلى عدد من الأوضاع التنظيمية والسياسية والدينية والاقتصادية وغيرها، وقد استخدم هذا المفهوم ليوحد بين النظريتيين السيكولوجية، والسوسيولوجية بطريقة قريبة من طريقة بارسونز.
ويشير مصطلح الشخصية في هذا المؤلف إلى الفرد ككيان كلي يمكن التمييز فيه بين الكائن العضوي، والبناء النفسي والشخصي، أما الإنسان الذي يلعب دوراً معيناً في المجتمع، ويتم تفسير الدور من خلال الرأي القائل أن المجتمع كبناء مكون من عدة أدوار مرتبطة بنظم مختلفة، وترى المؤلفات في هذا الكتاب أنه يمكن تحليل البناء الاجتماعي الكلي إلى أنواع تنظيمية كالاقتصادية والسياسية وغيرها.
ويعترف بهذه الأنواع كارتباطات بين النظم تكون لها نتائج أو غايات متشابهة، وتعتبر درجة استقلال الأنواع التنظيمية موضوعاً للبحث في أي مجتمع من المجتمعات، ولكننا نجد دائماً أن هناك بعض جوانب السلوك الاجتماعي تميز جميع الأنواع التنظيمية، ونعني بها التكنولوجيا والرموز والمكانة، والتعليم، وفي مقابل ذلك نجد جوانب أخرى من الحياة الاجتماعية غير قابلة للتعريف في ضوء مفهومي البناء، أو النوع التنظيمي، حيث أن هناك أنواعاً من التفاعل لا يمكن القياس عليها، ومنها:
- الاتفاق: وهو مفهوم يعني توحيد المجتمع عن طريق أساس مشترك يؤدي عمله بأسلوب متوازي في كل الأنواع التنظيمية.
- الانطباق: وهو عبارة عن حالة يتم التوصل إليها إذا أظهرت الأنواع المتباينة بعض العناصر البنائية المختلفة، التي تؤدي إلى وحدة غير مكتمله أو جزئية، وهذه تتمثل لنا في ظهور الرأسمالية الحديثة بعد سقوط النظم الإقطاعية ونمو أطر تشريعية وإدارية جديدة.
- التنسيق: ويشير إلى تكامل المجتمع عن طريق شكل تنظيمي معين يطغى على غيره من الأشكال مثل الديكتاتورية.
- التقارب: وتتم هذه الحالة عندما يتلاقى نوع تنظيمي أو أكثر إلى الحد الذي تصبح فيه منصهرة مع بعضها، وكما يتضح فهي عملية عكس التباين، كذلك يتضحأن لعرضها لمشكلة التكامل يقربهما من الوظيفيين وعلماء الاجتماع النظري في وقت واحد.
وينظر عالم الاجتماع رايت ميلز إلى أهمية أن يعي الباحث في مجال علم الاجتماع بما ناداه ” الخيال السوسيولوجي ” حتى يتمكن من معرفة نواحي وجوانب المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع.
وتقوم فكرة “الخيال السوسيولوجي” على اتصال بين مستويين من مستويات التحليل: مستوى المجتمع أو (البناء الاجتماعي) ومستوى الفرد، وذلك انطلاقاً من مسلمة رئيسية وهي أن حياة الشخص أو تاريخ المجتمع لا يمكن معرفة أي منهما دون معرفة الآخر والعلاقة التي تصل بينهما، فإذا كان الأشخاص لا يمتلكون القدرة على معرفة العلاقة بين الكائن البشري والمجتمع، أو بين تاريخ الكائن البشري وتاريخ المجتمع، أو بين الذات والعالم المحيط بها، فإنهم بحاجة إلى مجموعة من المهارات العقلية التي تمكنهم من إنشاء فكرة مناسبة لما يدور حولهم وما سوف يحدث لهم نتيجة تأثرهم بهذا العالم، هذه القدرة العقلية هي ما أطلق عليها رايت ميلز “الخيال السوسيولوجي”.
ومن تعريف رايت ميلز للخيال السوسيولوجي: بأن باستطاعة الشخص نفسه معرفة الإطار التاريخي الشامل، في ضوء مصطلحاته ومقاصده، من حيث الحياة الذاتية الشخصية أو الخارجية لأنماط عديدة من اﻷشخاص. بمعنى آخر أن هذا الخيال هو الذي يستطيع الشخص نفسه من معرفة الكيفية التي يصبح بها إدراك البشر المعرفي في تجاربهم وحياتهم اليومية، وعياً زائفاً بأوضاعهم الاجتماعية.