الآثار التاريخية في العصر العباسي

اقرأ في هذا المقال


أثر الخلفاء العباسيين في تاريخ العصر العباسي:

في العصر العباسي الأول نلاحظ أن عبد الله بن علي عمّ السفاح والمنصور قد ارتفع اسمه وعلا ذكره في بلاد الشام وخافه الناس حتى أطاعوه وذلك بعد الانتصار على مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وتتبّعه في بلاد الشام من مدينةٍ إلى أخرى حتى قضى عليه أخيراً في مصر، وما فعله ببني أمية عامة حتى في قبورهم، وهذا الخوف منه والطاعة له قد مكن له في بلاد الشام حتى طمع بالخلافة أو حدّثته نفسه في ذلك فتحرّك لها ووافقه الشاميون وسالروا معه حتى قُبِضَ عليه.

والأمر ذاته بالنسبة إلى أبي مسلم الخراساني الذي أخذ موضوع القتل الحل الوحيد في أرهب الناس حتى خشيه أنصاره قبل أعدائه، واستمر في خراسان مُدةً منذ سار إليها حتى قُضي عليه عام (137 هجري)، أي ما يُقارب من عشر سنوات، وهذا ما جعل له أتباعاً كثيرين وإنما من الناس الذين يعيشون في تلك الرقعة من الأرض جميعاً بل كان القادة العسكريون العباسيون كلهم يقرّون لهم بالطاعة ويخافونه حتى من كان منهم من بني هاشم بالذات.

ولكل حاكم يصبح أتباع سواء أكانوا من الذين شعروا بعدله وإخلاصه فأحبّوه وساروا معه أم من الذين استفادوا منه أم من الذين يتوقعون الإفادة منه في المستقبل، فالأمويون قد بقي بعضهم يقوم بحركاتٍ حتى نهاية القرن الثاني الهجري ويجد له الأتباع والأنصار يدعمونه في حركته، وأكثر حركات الأمويين على العباسيين كانت من قبل الأسرة السفيانية وذلك لأن العباسيين عندما قضوا على الأمويين إنما كان همّهم مُنصرفاً على الأسرة المروانية التي كانت بيدها السلطة والتي كان عدد أفرادها كبيراً.

بينما لم يهتموا بالأسرة السفيانية كثيراً لأنها تخلّت عن السلطة مُنذ مدةٍ طويلةٍ ولأن عدد أفرادها كان قليلاً وقد انصرفوا إلى أعمالهم الخاصة وتركوا الحكم وشأنه، وقد فرَّ أكثر أبناء الأسرة المروانية أو قتلوا وبقي السفيانيون فقاموا بحركاتٍ ضد العباسيين ووجدوا من يدعو لهم ويؤيدهم لذا عرفت كل حركة لهم باسم (السفيانية).

وإذا كان المروانيون الذين استطاعوا النجاة من العباسيين قد رحلوا إلى الأندلس بعد وصول عبد الرحمن الداخل إليها ونجاحه فيها فإن السفيانيين قد انتقلوا إلى جهات أخرى سواء الذين هربوا من وجه العباسيين أو الذين كانوا يفرّون عندما تفشل حركاتهم فقد كانوا يتجهون إلى جنوبي جزيرة العرب حيث كان لهم شأن بعد ذلك في اليمن وعسير وفي الجهة المقابلة من البحر الأحمر حيث السودان وبلاد النوبة.

وإن سابق حكم بني أمية في الشام قد سهّل لعيد الرحمن الداخل في الأندلس لوجود من يساعده في مهمته، فليس كل إنسانٍ يمكنه أن يذهب إلى منطقةٍ نأت أرضها أم قرُبت ويجد له الأعوان ويتمكن من إقامة دولةٍ له كما فعل عبد الرحمن هذا، ولو لم يكن للأمويين سابق مجدٍ وعزّ لم يستطع أن يدخل الأندلس أبداً بغاية الزعامة وتسلّم الأمر فيها.

أثر العسكريين في تاريخ العصر العباسي:

إذا كان العصر العباسي الأول قوي وكبير فلم تنشأ فيه الحكم العسكري أو قيادة ذات قوةٍ ترتكز عليها في سُلطتها للمنطقة، وإذا ما تكلمت كل نفس بحاكمها بذلك فقد يُعدم عليها بسرعة، وهذا ما حدث لعبد الله بن علي، وأبي مسلم الخراساني، ولم تقم في ذلك العصر سوى دولةٍ واحدةٍ هي دولة الأغالبة في تونس.

إذ كان إبراهيم بن الأغلب حاكم المنطقة وارتكز على نفوذه وجنده فقام بإنشاء دولته، وسكت عنه العباسيون لتقف إمارته هذه في وجه الإمارات الأُخرى الخارجة على العباسيين والمخالفة لهم، وهي إمارات الخوارج في (تاهرت)، وسجلماسة، وإمارة الأدارسة في المغرب الأقصى في فاس، ودولة الأمويين في الأندلس، وبهذا فلم تقم سوى دولة واحدة في عصر القوة العباسي اعتمدت على الجند.

وحسَّ الخليفة المأمون أن بعض القيادات الذين أصبح لهم سلطة لم يعد بالإمكان وضع حدّ لهم بسهولة لذا فقد خاف مغبة الأمر، وفي الوقت نفسه فإِنَّ الجند لم يعد بالإمكان السيطرة عليهم بيُسر لأن الناس قد خلدوا إلى الراحة، وركنوا إلى الأرض، وبقى أمر القوة بيد هؤلاء الجند لذا فقد طلب من أخيه المعتصم الإكثار من جلب الأتراك من بلاد ما وراء النهر على شكل مماليك فحياة المدن لم تُفسد طباعهم بعد.

ويُمكّن تدريبهم تدريباً عسكرياً كي يمكن تأمين الجند المطلوب عند اللزوم منهم، وتربيتهم تربية خاصة كي يكونوا أداةً طيعةً بيد الخليفة يحمي بهم الثغور، ويضرب بهم خصوم الدولة في الداخل، وبدأت أفواج الترك تفد إلى بغداد حتى ضجَّ منهم سكانها، وما أن أصبحوا جنوداً لهم نفوذ حتى كثرت تعدياتهم فقد أفسدتهم حياتهم الجديدة.

وحدث النزاعات بين الجند وبين البغداديين، مما عمل المعتصم إلى إنشاء مدينة (سامراء) وذهاب بهم إلى هناك ومع مرور الوقت فمنهم من أصبح قادة أشهرهم (الإفشين) و(بغا) و (وصيف) وغيرهم، وزاد نفوذهم في الدولة، وأخيراً تآمروا مع المنتصر على قتل أبيه المتوكل عام (247 هجري).

ومع قدوم هؤلاء الجند إلى مركز السلطة أضحت الأمور بين حُكمهم، وظل الخليفة كإسمٍ أو كصورةٍ في قصره ليس عليه سوى التوقيع على التعليمات في كثير من الأحيان أو إصدار الأوامر حسب رأي القادة وأصبح الحكم بالسيف لا بالرأي، والتنفيذ بالسوط لا بالحكمة، والناس مجبرون على الخضوع سواء أكان الأمر حقاً أم باطلاً، وعليهم أن يقولوا عن كل شيء أنه حق وصحيح وجيد ما دام مفروضاً من القادة، ومن قال غير ذلك كان السيف أقرب إليه من إجابته بالرفض، وهذا كَكُل حكم عسكري.

وهكذا عمَّ أوضاع الفساد فلم يأتمن الناس بعد ذلك على حياه، ولا على أموال، ولا على أعراضهم، ودُمّرِت الكرامة، وفقد الناس حُريتهم، وضاعت العزّة، وأصاب الأُمة الذُلّ ومتى وقع ذلك فقدت الأمة مقوماتها، ولم تعد قادرةً على القتال ولا على المُجابهة، وأصبح المُجتمع مُضطراً للخضوع للقادة المُتسلّطين، وقبول كل رأي يقوله العسكريون، وهذا ما يريدونه عادةً، ولم يعرفوا نتائجه.

وإنما يعرفون مصالحهم وفردوا حكمهم ونفوذهم وإشباع اللذات، هذا في الداخل، وهو نفسه ما يريده أعداء الإسلام في الخارج، ولا يختلف الوضع العسكري في أي زمانٍ ولا مكان عن هذا أبداً. وقد لوحظ هذا الأمر من القديم لذا كان الجند يقيمون بعيداً عن أهل المدن في معسكراتٍ خاصة بهم، نائيةٍ نسبياً عن تجمّعات السكان كي لا يحدث هذا الصدام غير المتكافئ، ويحدث عنه انشقاق، رُغم أن الجميع في الماضي جند وغير جند كانوا مسلحين، وسلاحهم واحد.

غير أن للجند مزية مهما يكن هي أنهم ذاهبون للقتال فلا بد من اللين لهم والتساهل معهم بل والدعاء لهم كي يذهبوا بمعنوياتٍ عاليةٍ لعله يُكتب لهم النصر على أعدائهم، كما لا بد من تشجيع أمير الجند وإظهار محبته وطاعته، ويُخشى جانبه إذا كان من الذين لا يخافون الله. وحرص الخلفاء في صدر الإسلام على أن يبقى المُجاهدون في مدن خاصةٍ بهم كي لا يميلوا إلى الدعة وحب الاستقرار، ومن هنا نشأت مُدن الكوفة والبصرة والفسطاط وغيرها لتكون قواعد للجهاد وذلك في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.


شارك المقالة: