اقرأ في هذا المقال
- الأسس النظرية لعلم الاجتماع الطبي
- ما هو المدخل الذي انتهجه روبرت ميرتون في علم الاجتماع؟
- العلماء الذين سعوا في تنظيم علم الاجتماع الطبي
- المشكلات التي تواجه بحوث علم الاجتماع الطبي
يعد الطب وعلم الاجتماع ميدانين من ميادين البحث التي قد تخلو من التعقيد، والأغلب أن النماذج النظرية بحاجة بشكل دائم إلى المراجعة والتحقق المستمر، حتى نسيطر على جوانب القصور فيها، ولذلك يرى فرديناند كوهن أن هذه النماذج تمثل تجريداً لسلسلة من الظواهر التي تخضع للملاحظة.
الأسس النظرية لعلم الاجتماع الطبي:
يأتي علم الطب وعلم الاجتماع على عكس علم الطبيعة، حيث يتطلبان كثيراً من المفاهيم والنظريات التي تساعدنا في تفسير مجموعات محددة من الظواهر، ولذلك حاول منظور هذين العلمين استخدام البناءات النظرية، لتحقيق هذا الغرض، بدءً من القرن الثامن عشر، حيث قدم بنيامين روش نظرية للفعل التشنجي التي ينظر إليها الطب الآن باعتباره بدعة طبية، وما أن وصلنا إلى القرن العشرين حتى اجتهد تالكوت بارسونز علم الاجتماع في نظريته عن الفعل الاجتماعي، لكي يجمع الأفكار المبعثرة بشأن هذا الفعل.
وفي القرن التاسع عشر، كشف هيلم هولتز عالم الطبيعة وبعض زملائه أن كل النشاط الإنساني بما فيه الإدراك قد يعود في نهاية المطاف إلى بعض القوانين الطبيعية البسيطة، ولعل كل هذه الجهود أثرت على علم الاجتماع، وأفادته بإضافة مجال البيولوجيا الاجتماعية، على سبيل المثال، هو المجال الذي يدرس الأسس البيولوجية الكامنة خلف كل سلوك اجتماعي.
وقد يكون سابقاً لأوانه أن نتنبأ بأن كبار منظري علم الاجتماع سواجهون نفس المصير الذي واجه علماء الطبيعة من قبل، فالتغير أمر حتمي في الحياة الاجتماعية وحتى الظواهر الطبيعية، وإذا كان ميدان المعرفة في علم الاجتماع مختلف من ناحية الكيفي عن مجال علوم الطبيعة والكيمياء، ويبدو أكثر تعرض للتغير، فإن ذلك كافي في حد ذاته للبرهنة على أن التفسير العلمي ﻷي مجال علمي يخضع للتغير، كما في حالة الظواهر البسيطة.
ما هو المدخل الذي انتهجه روبرت ميرتون في علم الاجتماع؟
ولعل المدخل الذي انتهجه روبرت ميرتون يثير تفاؤلنا في هذا الصدد نحو علم الاجتماع، فقد سعى ميرتون لتطوير النظريات متوسطة المدى، التي يسهل اختبارها في الواقع، والتحقق من مدى صحتها، بدلاً من التركيز على النماذج التصورية التي تستدعي توافر نظريات بديلة، ومن جانب آخر فإن النظريات صغيرة النطاق أو المحدودة، يمكن أن تندمج وتتشكل في صيغ وبناءات تصورية عامة، ومن الممكن أن نذكر الأمثلة التالية على هذا الاتجاه النظرية في المجال الطبي:
1- العلاقات القائمة بين التغذية وتصلب الشرايين.
2- العلاقات بين تدخين السجائر وسرطان الرئة.
3- ضغوط ومتاعب الحياة، والتوتر النفسي.
هذا بالإضافة إلى العديد من النظريات الأخرى المماثلة حول عدوى المرض، وقد أثارت هذه النظريات الاهتمام مدة طويلة، حتى تراكمت حولها دراسات وبحوث متنوعة، وفي السنوات الأخيرة، بدأ نفر من علماء الاجتماع المحدثين يقيمون الارتباطات والعلاقات بين الدراسات التجريبية الواقعية العديدة في الطب وبين النظرية السوسيولوجية العامة، وذلك بالإشارة عادة بين الفجوة القائمة بين النتائج الواقعية وبين الأطر التصورية الواسعة.
العلماء الذين سعوا في تنظيم علم الاجتماع الطبي:
الواقع أن التنطيم في علم الاجتماع الطبي، يعود إلى جهود بعض علماء الاجتماع العام، وعلى رأسهم ثلاثة رواد أثاروا الاهتمام بالمجال الطبي، وقدموا فيه نظريات مهمة، لا تزال شاهدة على إسهامهم حتى الآن، وهم تالكوت بارسونز، وإليوت فريدسون، ودافيد ميكانيك، فقد صكوا مصطلحات ومفاهيم جديدة مثل دور المريض وسلوك المرض والانحراف والأنماط المعيارية لعلاقة الطبيب بالمريض، والطب والضبط الاجتماعي.
وقد خضعت هذه المصطلحات للدراسة والبحث، لمعرفة أهميتها التوضيحية، ودورها في إغلاق الثغرات بين النظرية في علم الاجتماع الطبي وبين الواقع للظواهر في الصحة والمرض، ومع ذلك فليست هذه التفسيرات اختبارات واقعية للنظرية في هذا العلم.
ومن جانب آخر، هناك تطور هام آخر في علم الاجتماع الطبي، يتمثل في الجهود التي يبذلها بعض العلماء حالياً لإرساء المنظور الجدلي أو المادي لتوضيح الفارق بين المرض الفيزيقي والإعياء وباعتبارها نتاجاً للبناء الاجتماعي والظروف الاجتماعية، وتميل هذه التحليلات نحو توضيح طبيعة الصراع الطبقي، والتناقضات القائمة في داخل النظام الصحي ذاته، ولعل تناول علم الأوبئة لظواهر الصحة والمرض، ومن وجهة النظر المادية هو الوحيد الذي يمثل بداية الانتقال من التحليلات السياسية إلى البحوث والدراسات الواقعية.
ومع ذلك تظل الصلة بين نظريات الطب وعلم الاجتماع مجالاً جديداً نسبياً للبحث، وقد حاول بعض العلماء التحقق من طبيعة العلاقة بين التغير الاجتماعي وخاصة في المجالات الاقتصادية وبين المرض العقلي، وبالتالي تحديد ما إذا كان هذا التغير يؤثر على قدرة المجتمع على تحمل الاضطراب العقلي، أو يؤثر على وقوع الاضطراب ذاته.
والملاحظة أن الكثير من البحوث العلمية صارت تهتم بالعوامل الاجتماعية الثقافية والعوامل الاجتماعية النفسية، ودورها في زيادة معدل الاضطرابات العقلية، وهي بحوث تعتمد إلى حد كبير على صيغ افتراضية خاصة مستمدة من نظريات علم الاجتماع، بقصد اخضاعها للتحقق الواقعي.
المشكلات التي تواجه بحوث علم الاجتماع الطبي:
والجدير بالذكر أن معظم بحوث علم الاجتماع الطبي تواجه مشكلات معقدة حينما تحاول صياغة نظريات تجسد طبيعة المتغيرات الاجتماعية والطبية، وبالتالي تحديد أي هذه المتغيرات الاجتماعية هو المستقل وأيها هو التابع، ولعل بعض هذه المشكلات ترجع إلى أن نظرية علم الاجتماع الطبي، كما أنها تعتمد أساساً على التصور المجرد، والأحرى أن تعتمد على كفاءة تفسيرية بحكم ارتكازها على معطيات واقعية.
وهكذا تتحدد القضية في كيفية توافر الدقة والأمانة في عملية جمع المعلومات التي تستهدف الربط بين النظرية وطرق البحث الميداني، ومن الأمثلة الجادة للدراسات التي تسعى للوصول إلى الكفاءة التفسيرية، الدراسات التجريبية التي أجراها بعض علماء الاجتماع حول صحة المجتمع المحلي.
وتمتاز هذه الدراسات بأنها تعطي فرصاً فريدة لتناول الاختلافات الحالية بين العلوم الإنسانية والطبيعية، وتشتق فئة من الفروض التي تستمد من العلوم الاجتماعية وعلوم الصحة، وبالإضافة إلى ذلك فإن تواصل هذه الدراسات يسمح بإزدياد المعرفة الاجتماعية الطبية، وصياغة الفروض الحديثة من نتائج الدراسات القديمة في أطر منظمة، مما يتيح أجراء البحوث المتعمقة، فتتعمق معرفتنا بتوزيع المرض وطبيعته وانتشاره بين المواطنين.
ولعل دراسة الباحث فرا منجهام على أمراض الدورة الدموية التي تصيب القلب، مثال فريد على الجهود العلمية النادرة، لإجراء هذه البحوث التجريبية على المواطنين، وأخيراً يمكن القول بأن هذا التقدم اليسير في الارتباط بين النظرية في علم الاجتماع الطبي، وبين واقع الصحة والمرض، يرجع إلى حد ما إلى أن المتخصصين في هذا العلم السوسيولوجين والأطباء لم يلموا إلماماً كافياً بالإطار النظري للعلم الآخر، وبالتالي فإذا وجدت هذه الصلة، وجب على الباحثين الاعتماد على إجراء البحوث البينية المتداخلة التي تتبنى المدخل البيني، حيث تتفاعل المنظورات المتعددة وترتبط فيما بينها، وتثمر في دراسة المشكلات الاجتماعية الطبية.