الأنثروبولوجيا الموضوعية والناشطة

اقرأ في هذا المقال


الأنثروبولوجيا الموضوعية والناشطة:

على الرغم من أهمية النسبية الثقافية، إلا أنها ليست ممكنة دائمًا وفي بعض الأحيان تكون غير مناسبة للحفاظ على الموضوعية الكاملة في الأنثروبولوجيا، فقد يواجه علماء الأنثروبولوجيا الموضوعية الممارسات الثقافية التي هي إهانة للقيم الأخلاقية الراسخة أو التي تنتهك حقوق الإنسان لشريحة من السكان، وفي حالات أخرى قد يقومون بإجراء بحث جزئي للدفاع عن قضية معينة أو من أجل المطالبة بحقوق فئة مهمشة، على سبيل المثال ممارسة ختان الإناث والمعروفة أيضًا باسم (FGM)، وهي ممارسة شائعة في مناطق مختلفة من العالم، وخاصة في أجزاء من إفريقيا والشرق الأوسط.

ومثل هذه الممارسات التي تقوم على تعديل الأعضاء التناسلية الأنثوية لأسباب غير طبية وثقافية، وغالبًا ما يكون للمناطق التي تنتشر فيها هذه الممارسات رأيًا سلبيًا قويًا، وتعتبر هذه الممارسة غير ضرورية من الناحية الطبية وتشكل خطرًا للإصابة بعدوى خطيرة والعقم ومضاعفات الولادة.

وقد يعارضونها أيضًا لأنهم يشعرون أنها تنتهك حقهم بأن تختبر النساء المتعة الجنسية، وهو أمر يعتبرونه على الأرجح حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، وينبغي على عالم الأنثروبولوجيا أن يتدخل لمنع الفتيات والنساء من التعرض لهذه الممارسة، حيث درست عالمة الأنثروبولوجيا جانيس بودي ختان الإناث في المناطق الريفية في دولة معينة وسعت لتفسير ذلك من منظور نسبي ثقافيًا، إذ وجدت أن الممارسة مستمرة جزئيًا؛ لأنها كذلك يُعتقد إنه يحافظ على عفة المرأة ويحد من رغبتها الجنسية، مما يقلل من احتمالية إقامة علاقات جنسية معها بمجرد أن تتزوج.

وأظهر بحث بودي كيف تكون هذه الممارسة منطقية في سياق الثقافة حيث يعتبر السلوك الجنسي للمرأة رمزًا لشرف عائلتها، وهو أمر مهم ثقافيًا، ويساعد تفسير بحث بودي النسبي في جعل الممارسة مفهومة ويسمح للغرباء الثقافيين لفهم كيف يكون متماسكًا ثقافيًا وداخليًا، لكن يبقى السؤال مرة أخرى لعلماء الأنثروبولوجيا لفهم لماذا يمارس الناس ختان الإناث، وهل يجب أن يقبلوه؟ لأنهم يكشفون عن الثقافة بمعنى الممارسة، وهل يجب أن يحافظوا على موقف محايد أم يجب أن يحاربوا ممارسة يُنظر إليها على أنها ظلم؟ وكيف يعرف عالم الأنثروبولوجيا ما هو الصواب؟

ولسوء الحظ نادرًا ما تكون الإجابات على هذه الأسئلة بسيطة، وهذا ما يفعله علماء الأنثروبولوجيا الموضوعية كمجموعة فهم لا يتفقون دائمًا على الموقف المهني المناسب والمسؤولية، ومع ذلك يمكن أن تساعد ممارسات مثل ختان الإناث على فهم الجدل حول الموضوعية مقابل النشاط في الأنثروبولوجيا بشكل أكثر وضوحًا، إذ يشعر بعض علماء الأنثروبولوجيا أن السعي إلى الموضوعية في الأنثروبولوجيا أمر بالغ الأهمية، وإنه حتى لو لم يكن من الممكن تحقيق الموضوعية بالكامل فإن الإثنوغرافيا لعلماء الأنثروبولوجيا يجب أن تكون خالية من أكبر قدر ممكن من الآراء الشخصية.

ويتخذ آخرون الموقف المعاكس وينتجون البحث والكتابة الأنثروبولوجية كوسيلة للنضال من أجل المساواة والعدالة للمعاقين أو مجموعات لا صوت لها، ويستمر الجدل حول مدى قبول النشاط إن وجد، وما هو واضح هو أن علماء الأنثروبولوجيا يواصلون التعامل مع العلاقة الخلافية بين الموضوعية والنشاط في البحث الإثنوغرافي.

العلم والانسانية في الأنثروبولوجيا:

وصف علماء الأنثروبولوجيا مجالهم بأنه أكثر العلوم إنسانية والأكثر علمية من العلوم الإنسانية، وحارب علماء الأنثروبولوجيا الأوائل لإضفاء الشرعية على الأنثروبولوجيا باعتبارها مجالًا علميًا قويًا للدراسة، وللقيام بذلك استعاروا أساليب وتقنيات من العلوم الفيزيائية وطبقوها على التحقيق الأنثروبولوجي، وفي الواقع يتم تصنيف الأنثروبولوجيا اليوم على أنها علم اجتماعي في معظم المؤسسات الأكاديمية إلى جانب علم الاجتماع وعلم النفس والاقتصاد والعلوم السياسية.

ومع ذلك في العقود الأخيرة نأى العديد من علماء الأنثروبولوجيا الثقافية بأنفسهم عن البحث الموجه نحو العلم وتبني مناهج أكثر إنسانية، بما في ذلك المنظورات الرمزية والتفسيرية، حيث تتعامل الأنثروبولوجيا التفسيرية مع الثقافة باعتبارها مجموعة من النصوص بدلاً من محاولة لاختبار الفرضية بناءً على الاستدلال الاستنباطي أو الاستقرائي، حيث تقدم النصوص صورة معينة من وجهة نظر ذاتية معينة، ويعتقد علماء الأنثروبولوجيا التفسيرية إنه ليس ضروريًا أو حتى ممكن لاستجواب النص بموضوعية.

وبدلاً من ذلك يقومون بدراسة النصوص لفك التشابك المتنوع وشبكات المعنى المضمنة فيها، وبالتالي فإن علماء الأنثروبولوجيا التفسيرية يشملون السياق بتفسيراتهم، ووجهات نظرهم والأهم من ذلك كيف ينظر المشاركون في البحث لأنفسهم والمعاني التي ينسبونها إلى حياتهم، ومن غير المحتمل أن يستنتج علماء الأنثروبولوجيا أن النهج الواحد هو الأفضل، وبدلا من ذلك يمكن لعلماء الأنثروبولوجيا تطبيق أي أسلوب وجميع الأساليب التي تناسب مشكلتهم الخاصة على أفضل وجه.

فالأنثروبولوجيا فريدة من نوعها بين التخصصات الأكاديمية لتنوع الأساليب المستخدمة لإجراء البحوث وعلى نطاق واسع مجموعة من التوجهات التي تندرج تحت مظلتها.

مراقبة المشاركين من أدوات وتقنيات في البحث الأنثروبولوجي:

من مختلف التقنيات والأدوات المستخدمة لإجراء البحوث الأنثروبولوجية، هي الملاحظة بشكل عام وملاحظة المشاركين على وجه الخصوص وهي من بين أهمها، فالأنثروبولوجيون مدربون على الانتباه إلى كل ما يحدث من حولهم في الميدان من الأنشطة اليومية الروتينية مثل طهي العشاء للمناسبات الكبرى مثل الاحتفال الديني السنوي، ويلاحظون كيف يتفاعل الناس مع بعضهم البعض، وكيف تؤثر البيئة على الناس، وكيف يؤثر الناس على البيئة.

ومن الضروري أن يوثق علماء الأنثروبولوجيا ملاحظاتهم بدقة، وعادةً عن طريق كتابة ملاحظات ميدانية وتسجيل مشاعرهم وتصوراتهم في مجلة شخصية أو يوميات، كما تتضمن ملاحظة المشاركين مراقبة الإثنوغرافيين أثناء مشاركتهم في الأنشطة مع المخبرين، وهذه التقنية مهمة لأنها تتيح للباحث لفهم سبب قيام الأشخاص بما يفعلونه بشكل أفضل من منظور إيميكي، ولاحظ مالينوفسكي أن ملاحظة المشاركين هي أداة مهمة يمكن من خلالها فهم وجهة نظر المواطن الأصلي وعلاقته بالحياة لتحقيق رؤيته لعالمه.

ولإجراء ملاحظة المشاركين، يجب أن يعيش الاثنوغرافيون مع أو يقضون وقتًا طويلاً مع المخبرين ولإقامة علاقة قوية معهم، والوئام هو الشعور بالثقة والراحة وعلاقة العمل يكون فيها المخبر والأثنوغرافي مرتاحين لبعضهما البعض ومقبول للعمل معًا، وكانت ملاحظة المشاركين جزءًا مهمًا من بحث خاص قام به علماء الأنثروبولوجيا، ففي عام 2003، تم قضاء ستة أشهر في قريتين من المايا في مرتفعات تشياباس بالمكسيك، لأجراء بحثًا إثنوغرافيًا حول متحف العلوم في مينيسوتا لتوثيق التغييرات في تصاميم المنسوجات.

وهي نوع من البلوزات المنسوجة يدويًا التي تنسجها نساء المايا في المنطقة وكل مدينة لها أسلوبها وتصاميمها الخاصة، ففي سوق المدينة الكبير يمكن للمرء بسهولة التعرف على مدينة كل نساج من خلال ألوان وتصميمات المنسوجات لها.

ومن خلال ملاحظة المشاركين، تمكن علماء الأنثروبولوجيا من إدراك أن العوامل الأخرى من المحتمل أن تكون هي الدافع وراء التغييرات في منسوجاتهم، واستنتجوا في النهاية أن معدل التغيير في تصميم المنسوجات في (Zinacantán) كان مرجحًا ومتعلقاً بوتيرة التغيير الثقافي على نطاق واسع في المجتمع الناتج عن التفاعلات بين المقيمين والسياح والسفر المتكرر نسبيًا إلى بيئة أكثر حضرية، لذا كانت ملاحظة المشاركين أداة مهمة في البحث الأنثروبولوجي وهي مركزية لمعظم الدراسات الإثنوغرافية اليوم.


شارك المقالة: