الإطار التاريخي والأيديولوجي لظهور علم الاجتماع

اقرأ في هذا المقال


الإطار التاريخي والأيديولوجي لظهور علم الاجتماع:

يرتبط الفكر الاجتماعي في كل عصر من العصور بطبيعة المرحلة التاريخية وبنوعية البناء الاجتماعي والثقافي القائم وبالنظم الاجتماعية السائدة، وفي مقدمتها النظام الاقتصادي ويذهب ترياكيان إلى أننا إذا كنا نقصد بالأيديولوجية البناء الفكري أو مجموعة القيم والتصورات التي تدور حول الواقع، والتي تدور حول الواقع، والتي تشكل الأساس الواضح والخلفي لبرامج العمل الاجتماعي الشامل، أو التي تعمل كموجه للعمل الاجتماعي وللتغير الاجتماعي، وكمحدد للموقف الفكري من النظم الاجتماعية القائمة.

فإننا نجد أن هناك أوجه ارتباط عديدة بين ظاهرة علم الاجتماع وبين البناء الأيديولوجي القائم داخل المجتمع، ويمكن تتبع ذلك الارتباط خلال المراحل المختلفة لتطور علم الاجتماع، واعتباراً من نقطة انطلاقه حتى الوضع الحالي لهذا العلم في جميع دول العالم.

ويشير الباحث نسبت إلى أن المفاهيم الأساسية لعلم الاجتماع خلال مرحلة نشأته الأولى، صدرت كرد فعل للأيديولوجية التي تضمنتها فلسفة عصر الاستنارة، والتي كانت تعلي من قدر الإنسان والفردية والحرية والعلمانية والعقل فقد ارتبط عنصر النهضة في أوربا بمجموعة من المتغيرات.

في مقدمتها حركة الكشوف الجغرافية وظهور المدن وظهور التجار أو الطبقة البرجوازية، ومحاولة أبناء هذه الطبقة التغلب على سلطان الإقطاع والأمراء، وقد كانت طبقة الأمراء الإقطاعيين خلال القرون الوسطى يستندون في دعم سلطانهم واستغلالهم على بعض النظريات، في مقدمتها النظريات الثيولوجية في تفسير نشأة السلطة والمجتمع والدولة، سواء في شكل التفويض الإلهي المباشر أو غير المباشر.

ويؤكد الدارسون للنظم السياسية مثل بارتلمي ودوجي إن مثل هذه النظريات تخرج بنا عن نطاق البحث العلمي، وقد استهدفت هذه النظريات الثيولوجية تبرير السلطة المطلقة للملوك، ومع ظهور الطبقة البرجوازية المتطلعة إلى السيطرة الاقتصادية والسياسية، ومع تزايد قوة هذه الطبقة، ظهر فكر اجتماعي جديد يدعمها ويبرر تسلطها، استناداً إلى نظريات اجتماعية جديدة، وقد اختلف الوضع بعض الشيء باختلاف المجتمعات الأوربية ذاتها.

فقد عاش الشعب البريطاني طوال القرن السابع عشر تقريباً، في ظل ثورة متأججة أو هدنة لثورة مقبلة، وانتهى به الأمر إلى تغيير أسرة ستيوارت المالكة المستبدة، ولم يكتف الشعب المنتصر بنجاحه الواقعي في الثورة على الحكم الملكي المطلق، ولكنه كان في حاجة إلى من يؤيد الثورة بعد انتصارها التأييد الفكر الذي يوضحها للأذهان، ويعمق مفاهيمها ويمنحها الدعم الفلسفي والأيديولوجي والاجتماعي.

معرفة الأساس السوسيولوجي الثقافي:

وفي ضوء هذه المخاوف يمكننا أن نفهم الأساس السوسيولوجي الثقافي لظهور نظرية لوك في العقد الاجتماعي، وتأكيده على فكرة الحقوق الطبيعة للإنسان التي لا سيطرة للمجتمع عليها، وفي مقدمتها حق العمل والتملك والحرية، وهكذا وضع الأساس الرأسمالية الحديثة، كذلك أكد ذلك المفكر على حق الشعب في مسائلة الحاكم، طالما أن العقد موقع من طرفين، هما الشعب والحاكم، وعلى كل منهما القيام بالتزاماته المنصوص عليها في العقد.

وقد استطاع روسو من خلال نظريته في العقد الاجتماعي والإدارة العامة والمساواة أن يعكس مشكلات عصره وأن يمهد للثورة الفرنسية البرجوازية، ويمكن القول بأن بذور الفكر السوسيولوجي في أوربا، ومحاولة تحقيق الفهم العلمي للمجتمع من خلال تطبيق المنهج العلمي عند دراسة ظواهر المجتمع ونظمه ظهرت خلال عصر الاستنارة ولهذا يحق لنا أن نعتبر ذلك العصر هو نقطة الانطلاق الحقيقية للنظرية السوسيولوجية في أوربا.

وقد آمن مفكرو هذا العصر بقدرة العقل على فهم العالم سواء الطبيعي أو الاجتماعي، خاصة بعد أن ظهرت الاكتشافات الكبرى في مجال العالم الطبيعي، فإذا كان العقل البشري قادراً على الكشف عن اسرار الطبيعة من خلال المنهج العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة، فإنه قادر كذلك على الكشف عن أسرار العالم الاجتماعي على طريق نفس المنهج، وهكذا دعا كتاب عصر الاستنارة إلى ترشيد الحياة الاجتماعية، وهم في هذا كانوا يصدرون عن ظروف العصر وعن الصراع بين الطبقة الإقطاعية الهابطة والطبقة البرجوازية الصاعدة والتي تحتاج إلى دعم عقلي، وإلى إطلاق الحريات الاجتماعية للأفراد، مثل حرية العمل والملكية والتنقل.

ويؤكد بعض الباحثين مثل إرنست كاسيرر أن أهمية الأفكار والتصورات، والتي طرحها المفكرون خلال عصر الاستنارة، لا تتمثل في منجزاتهم الإيجابية، بقدر ما تتمثل في مجال السلب والنفي، فقد ساهمت هذه التصورات أو الدعوة إلى العلمانية، وترشيد المجتمع، في هدم النظريات الثيولوجية، أو هدم مدينة الله التي رسمها القديس وذلك من أجل إعادة بنائها بمواد وبطريقة أحدث.

ولكن على الرغم من إنكار كاسيرر جدية وأصالة التصورات التي طرحت خلال عصر الاستنار، إلا أن الواقع أن الكثير من كتاب ذلك العصر، عبر عن ضيقه بالميتافيزيقا التقليدية، وأصبحت الفلسفة عندهم هي النشاط الذي يمكن من خلاله الكشف عن الشكل الأساسي لكافة الظواهر الطبيعية والروحية.

ولم يعد الفكر الفلسفي منفصلاً عن الفكر العلمي أو التاريخي أو التشريعي أو السياسي، وأكد فلاسفة عصر الاستنارة على أهمية الفحص والتحليل والنقد، فلم يقتنعوا بالوظيفة التقليدية للفكر، ولكنهم نسبوا إليه دوراً خلاقاً ونقدياً بل أناطوا به وظيفة إعادة صياغة العلاقات والنظم الاجتماعية في اتجاه العلمانية والرشيد والعقلانية.


شارك المقالة: