اقرأ في هذا المقال
عند دراسة قضايا النظرية الحتمية الاجتماعية من المهم على حد سواء بحث وحدة وخواص الطابع الحتمي لظواهر الطبيعة والمجتمع، يفضي تجاهلنا ﻷي نقطة من هذه النقاط، وكذلك تبسيط تصورنا عن نظرية الحتمية، عادة إلى إنكار وجودها في الحياة الاجتماعية.
الاستنتاجات العامة ﻹدراك جوهر النظرية الحتمية الاجتماعية
ان اعتبار نظرية الحتمية سبباً جامداً وذو مدلول واحد للظواهر دفع بعض الباحثين إلى أن يستنتجوا استنتاجاً كاذباً عن أن نظرية الحتمية فشلت سواء في العلوم الطبيعية، أم في العلوم الاجتماعية، خاصة إن انكار نظرية الحتمية تجعل العالم، من حيث الجوهر، يخرج عن حدود العلم؛ ﻷن هذا الأمر يفضي إلى استحالة التفسير العلمي، وبالتالي إلى استحالة التنبؤ العلمي بالظواهر.
السببية وتحديد الهدف في الحياة الاجتماعية
هناك كتب كثيرة فلسفية عامة تحلل مفهوم نظرية الحتمية ومضمونها، ولهذا فإننا لا نتطرق هنا إلى كافة المسائل التي اختلفت الآراء عليها والتي تتطلب مواصلة النقاش حولها، إنما نكتفي بذكر الاستنتاجات العامة الضرورية لادراك جوهر النظرية الحتمية الاجتماعية.
أ- إن المبدأ الذي تنطلق منه نظرية الحتمية هو الاقرار بوجود روابط عامة في العالم فينجم عن ذلك حكم يقول عن هذه الحتمية على كافة الظواهر، أي ارتباطها بطائفة من الظروف والعوامل.
ب- إن مبدأ نظرية الحتمية هذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمبدأ السببية، غير أنه ليس مطابقاً له، فبالرغم من الوحدة العامة للترابط السببي، بمعنى أنه ليس هناك ظواهر بلا أسباب، فإنة لا يكون إلا جزءاً صغيراً من الروابط العامة للظواهر، ولهذا فإنه لا يمكن جعل نظرية الحتمية تطابق الترابط السببي للظواهر، وهناك أشكال أخرى لاظهار الحتمية، عدا الترابط بين الأسباب والنتائج، كالوظيفة والتناسب وغير ذلك.
ج- إن نظرية الحتمية لا تطابق كذلك الاقرار بارتباط ظواهر بأخرى بشكل بسيط، ذلك الارتباط الذي تعبر عنه قوانين الديالكتيك، إنما تتضمن الروابط المحتملة التي تعبر عنها قوانين الاحصاء، وبهذا الصدد نقول أن هذا الاحتمال ليس مفهوماً ذهنياً يتوقف على درجة معرفة أو عدم معرفة تقلبات حلول الحادث، إن الاحتمال كالصدفة يتمتع بصفة موضوعية، ثم إن الاقرار به لا يتعارض والمفهوم الديالكتيكي لنظرية الحتمية، باعتبارها مبدأ لسبب الوجود وتعيينه.
د- إن نظرية الحتمية في الحياة الاجتماعية لا تنفي لا فرص الناس في اختيار هذه الأفعال أو تلك ولا مسؤوليتهم عن هذا الاختيار، ولذلك فإن الاقرار بضرورة أفعال الإنسان ورفض، على حد تعبير فلاديمير لينين الخرافة السخيفة عن حرية الإدارة، لا يقضي مطلقاً لا على عقل الإنسان ولا على ضميره ولا على تقدير أفعاله.
العكس هو الصحيح، إذ أن هذا الاقرار يعطي أساساً موضوعياً للتقدير السليم لأفعال الناس، من هذه الحقيقة ينجم الفرق الجذري بين نظرية الحتمية ونظرية الإيمان بالقضاء والقدر، إن نظرية الإيمان بالقضاء والقدر هي ليست من ثمار نظرية الحتمية بصورة عامة، إنما هي إما الفهم الآلي لهذه النظرية، أو حتى أنها الرؤية اللاهوتية إلى العالم وغيرها من الآراء.
الخاصية الرئيسية لنظرية الحتمية الاجتماعية
إن الخاصية الرئيسية لنظرية الحتمية الاجتماعية هي أن موضوعها نشاطات الناس، وأن الناس هم أفراد التاريخ في آن واحد، وإن القوانين الاجتماعية هي قوانين ممارسة الناس لنشاطاتهم العملية، التي لا يجري تطبيقها بدون الناس الذين يكونون المجتمع، إنما من خلال الأفعال التي يقومون بها.
من الطبيعي أن تتوقف نشاطات الناس هذه على الظروف التي يعيشون فيها، حيث أن الناس أنفسهم يغيرون هذه الظروف، ولهذا فإن الظروف على حد تعبير كارل ماركس، هي من ثمرات نشاطات الإنسان، كالإنسان الذي هو من ثمرات الظروف على حد سواء.
إن السبب الموضوعي لنشاطات الناس يُسفر قبل كل شيء عن تلك الحقيقية القائلة، أن الناس يجدون دائماً ظروفاً معينة لحياتهم، لا تتوقف لا على إرادتهم ولا على رغبتهم، ورغم أن هذه الظروف تجسد النتائج الموضوعية لنشاطات الناس أنفسهم، فإن هذه النتائج من ثمرات التطور السابق وأعمال أجيال عديدة، ثم أن هذه النتائج تدخل ضمن الظروف الموضوعية لحياتهم، فيضطرون إلى مراعاتها أن أرادوا أم لم يريدوا، حيث أن هذه الحقيقة لا تنفي مطلقاً أن الناس أنفسهم يغيرون هذه الظروف ويعيدون خلقها بمواصلة نشاطاتهم.
وعدا ذلك فإن نظرية الحتمية لا تعني أبداًً أن جميع التغيرات الحتمية والطبيعية للحياة الاجتماعية تجري بدون إرادة الناس ووعيهم، يظهر سوء الفهم هذا وما شابهه حينما نستثني الإنسان بصفته الخالق للأفعال الاجتماعية من سلسلة الأسباب والنتائج، فيبدو الإنسان حينئذ وكأنه يقف خارج الروابط الطبيعية للأحداث، بينما نشاطاته بالذات هي التي تكون في الواقع الحلقة الحتمية لهذه السلسلة، إن موقف بيير بورديو، بهذا الصدد له دلالته، إذ أنه أعلن أن المستقبل يتوقف علينا أنفسنا، وأما نحن فلا نرتبط بأي ارتباط بالحتمية التاريخية.
ليس هناك من يشك أن المستقبل يتوقف علينا أنفسنا، إن الإنسان هو الذي يصنع مستقبله بنفسه، فهو كما قال كارول ماركس، مؤلف مسرحية حياته وممثلها، حيث أن الإنسان يصنع هذا المستقبل في ظل ظروف معينة لا تتوقف على رغبته.
ثم أن هذه الموضوعة القائلة أن المستقبل يتوقف علينا أنفسنا لا تلغي تلك الحقيقة القائلة أننا أنفسنا نرتبط بالظروف الموضوعية التي عشنا واكتسبنا القوة فيها، والتي تركت علينا آثارها المعينة، إن الناس هم الذين ينتخبون أفعالهم ويتحركون طبقاً لذلك، حيث أنهم يفعلون ذلك تحت تأثير إدراكهم للأوضاع السائدة وتشخيص الهدف الذي ترمي إليه، وبهذا الصدد نقول أن أهدافهم، إنما هي التي تصيغ أهدافهم كذلك.
من المستحيل إدراك ما يستطيعه الإنسان وما يرغب القيام به دون مراعاة الظروف الحقيقية لحياته، إن الظروف هي التي تفسر الأهداف غير القابلة للتحقيق التي تطرحها أحياناً أمامها جماعات من الناس، بل وحتى فئات اجتماعية بكاملها، تحاول هذه الجماعات والفئات في بعض الحالات أن تسبق الحياة وتحقق أهدافاً لم تتمخض الظروف التاريخية بعد لتحقيقها، وتسعى في حالات أخرى دون جدوى إلى انقاذ ما أصدر التاريخ عليه حكمه بالهلاك، بل أن الحياة الواقعية هي التي تنجم عنها حتى الخيالات والأوهام في حدود معينة.
وهناك خاصية أخرى تتميز بها السببية في الحياة الاجتماعية، وهي أن الأهداف التي يطرحها الإنسان أمامه عن وعي وإدراك هي الحلقة الوسطية الضرورية في سلسلة الأسباب والنتائج، وإن كل نشاطات الإنسان، بداية من أبسط أعماله، هي عملية واعية ورؤية للأهداف واضحة، من الطبيعي إن اختيار الأهداف ووسائل تحقيقها تؤثر تأثيراً حاسماً على نتائج نشاطات الإنسان، حيث أن نقطة الافتراض لا تنفي حتمية نشاطات الإنسان، ﻷن أهدافه تنجم عن ظروف حياته ومتطلباته ومصالحه، وأما الحوافز التي تثيرها فتصبح عوامل محركة لنشاطاته.