الفهم الألماني المتطور للجريمة المنظمة

اقرأ في هذا المقال


يبدو أنّ الجدل الألماني حول الجريمة المنظمة قد وصل إلى دائرة كاملة في التسعينيات من خلال العودة إلى المفهوم الموجه للمافيا في الستينيات، ومع ذلك دون إلغاء المفهوم الواسع للجريمة المنظمة الذي تم تصميمه ليناسب شبكات الجريمة المحلية خلال الثمانينيات، حيث إنّ المفهوم الأمريكي السائد للجريمة المنظمة مشابه تمامًا للفهم السائد اليوم في ألمانيا، ومع ذلك فإنّ التطورات التي أدت إلى هذا الإجماع لم تكن موحدة تمامًا بحيث يكون من المنطقي إلقاء نظرة على التاريخ المفاهيمي المحدد في بلد مثل ألمانيا، حيث دخل مفهوم الجريمة المنظمة في النقاش حول السياسة الجنائية في وقت سابق، وفي الوقت المناسب مما كانت عليه في العديد من البلدان الأخرى.

الخمسينيات والستينيات والجريمة المنظمة في الولايات المتحدة وإيطاليا

في البداية ظهر مفهوم الجريمة المنظمة بشكل متقطع فقط في الصحافة ومجلات إنفاذ القانون في ألمانيا خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي في مناقشات الجريمة في الولايات المتحدة، ولم يكن هناك أي إحساس بالعلاقة المباشرة التي قد تكون لهذه القضايا بالنسبة لألمانيا، ثم في أواخر الستينيات من القرن الماضي أعرب مسؤولو إنفاذ القانون عن مخاوفهم من أنّ الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة وأيضًا في إيطاليا يمكن أن تشكل تهديدًا للمستقبل، وشهد أحد السيناريوهات قيام عصابات الجريمة الأجنبية بتوسيع مناطق نفوذها إلى ألمانيا، وتصور سيناريو آخر تطورًا مستقلاً للجريمة ولكنه تطور مشابه لظهور الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة.

السبعينيات والثمانينيات والفهم الألماني الفريد للجريمة المنظمة

محاولة فاشلة لتعريف الجريمة المنظمة

في أوائل السبعينيات بدأ مسؤولو الشرطة في مناقشة حل ثالث للصراع بين المفهوم والواقع من حيث: تعريف ألماني فريد للجريمة المنظمة ومستقل عن نموذج المافيا، بينما افترضوا أنّ ألمانيا لم توفر أرضًا خصبة لظهور عصابات الجريمة مثل كوزا نوسترا، وجادلوا بأنّ الجريمة المنظمة كانت علامة مناسبة لمظاهر الجريمة الجديدة في ألمانيا، وجمع هذا النهج الخطاب المجرد حول الجريمة المنظمة في الولايات المتحدة وإيطاليا بخطاب موازٍ حول التغييرات النوعية في سلوك الأنشطة الإجرامية وأنماط التعاون الإجرامي التي بدأت الشرطة في ملاحظتها خلال الستينيات.

في عام 1973 أنشأت وكالات الشرطة الحكومية والفدرالية لجنة لوضع تعريف للجريمة المنظمة كأساس لمراجعة استراتيجيات إنفاذ القانون، وانتقلت اللجنة بين المناقشات حول ما إذا كانت الجريمة المنظمة موجودة في ألمانيا أم لا، والمناقشات المفاهيمية حول مكان وضع الجريمة المنظمة الألمانية في مجموعة من الجرائم الجماعية، التي تتراوح من التعقيد الملحوظ لعصابة كوزا نوسترا الأمريكية إلى الهيكل البسيط لعصابة (Bande)، على النحو المحدد في القانون الجنائي الألماني، ووافقت اللجنة على تعريف يتمحور حول الأعمال الإجرامية التي ترتكبها مجموعات لها أكثر من مستويين هرمي.

كان رد الفعل داخل مجتمع إنفاذ القانون مختلطًا، في حين بدا أنّ العديد من مسؤولي الشرطة يرحبون بنهاية الجدل حول التعريفات من أجل التحول إلى جوانب أكثر عملية للتعامل مع الجريمة المنظمة، وعارضت وكالة الشرطة البافارية بشكل خاص التعريف الذي قدمته اللجنة، ويُفترض أنّ ولاية بافاريا قاومت تبني أي تعريف رسمي للجريمة المنظمة خوفًا من أن تفقد بعض اختصاصها في التحقيقات الجنائية لصالح وكالة الشرطة الفيدرالية (BKA)، وفي النهاية تم حل اللجنة في عام 1975 دون اتفاق على تعريف الجريمة المنظمة.

من المثير للاهتمام أنّ حل اللجنة أعقبه تلاشي سريع في الاهتمام بمناقشة الجريمة المنظمة، وبحلول عام 1981 لم يختف مفهوم الجريمة المنظمة من مجلتي إنفاذ القانون فحسب، بل اختفى أيضًا من المجلة الإخبارية، وهذا يؤكد الدور المهيمن للمسؤولين عن إنفاذ القانون في تشكيل التصور العام للجريمة خلال هذه الفترة.

الجريمة المنظمة كمشكلة محلية

في عام 1982 ظهر مفهوم الجريمة المنظمة من جديد، ويبدو أنّ مجتمع إنفاذ القانون الألماني قد توصل أخيرًا إلى توافق في الآراء على أنّ الجريمة المنظمة مفهوم مناسب، وأصبح هذا الإجماع واضحًا في لجنة أخرى مشتركة للشرطة والشرطة الفيدرالية تم إنشاؤها في العام الماضي لاستكشاف طرق جديدة لإنفاذ القانون، واعتمدت هذه اللجنة دون أي نقاش تعريفًا للجريمة المنظمة كان من المقرر إدراجه في مقدمة تقريرها، وليس من الواضح ما الذي أدى إلى تغييره، ومن الواضح مع ذلك أنّ بافاريا التي كانت ممثلة بقوة في اللجنة قد تخلت عن معارضة مفهوم الجريمة المنظمة، ربما بسبب برنامج تلفزيوني تم بثه سابقًا حول الجريمة المنظمة في عاصمة ولاية بافاريا ميونيخ.

كان التعريف الجديد أوسع بكثير من التعريف من عام 1974، وبدلاً من التسلسل الهرمي متعدد المستويات كانت اللجنة راضية عن التعاون المستمر للعديد من المجرمين في تقسيم العمل، وحدد هذا التعريف اللحن لمفهوم الجريمة المنظمة التي تتمحور حول الشبكات الإجرامية على عكس المنظمات المنظمة بشكل هرمي والواضحة، وقد سمح باستنتاج أنّ الجريمة المنظمة كانت حقيقة واقعة في ألمانيا، وأنّها كانت موجودة بالفعل في البلاد لبعض الوقت، وفي حين لم يتم تجاهل الآثار الدولية لأنواع معينة من الجريمة مثل الاتجار بالمخدرات خلال الثمانينيات، كان يُنظر إلى الجريمة المنظمة في المقام الأول على أنّها ظاهرة محلية لا سيما على أنّها ثمرة مناطق الضوء الأحمر في المناطق الحضرية الكبرى.

العودة إلى نموذج المافيا

أثبت نهج الشبكة أنّه غير جذاب لوسائل الإعلام، ولم يكتسب مفهوم الجريمة المنظمة شعبية واسعة قبل أواخر الثمانينيات، عندما انتقلت صورة عصابات الجريمة الأجنبية مثل كوزا نوسترا الأمريكية والمافيا الصقلية (Sicilian Mafia) مرة أخرى إلى مركز الاهتمام، ولكن على عكس التصور الأصلي في الستينيات من القرن الماضي يُعتقد الآن أنّهم موجودون بالفعل في ألمانيا.

لا تزال صورة المافيا الأجنبية كتهديد وشيك للمجتمع الألماني تهيمن على التصور العام للجريمة المنظمة، ويتم تعزيزها بشكل دائم من قبل وسائل الإعلام والسياسيين ومسؤولي الشرطة، ومع ذلك من المهم أن نلاحظ أنّ وراء هذه الكليشيهات ولا يزال عمل الشرطة اليومي قائمًا على مفهوم واسع جدًا وغامض، وإنّ التعريف الرسمي الحالي للجريمة المنظمة الذي يعود تاريخه إلى عام 1990 والذي يرد في المبادئ التوجيهية للتحقيقات الجنائية لا يتطلب في الأساس أكثر من التعاون المستمر من ثلاثة أشخاص.

في النهاية غالبًا ما تكون الجريمة المنظمة نتاجًا للصراع في الدول الضعيفة ومساهمًا فيها، حيث تقر الأمم المتحدة بالتهديد الخطير الذي تشكله على تنفيذ الولاية وفعالية البعثة وسلامة وأمن موظفي الأمم المتحدة ومرافقها ومجتمعات الدول المضيفة، وكُلفت شعبة شرطة الأمم المتحدة بتقديم الخبرة الفنية والمساعدة للشرطة الوطنية ومؤسسات إنفاذ القانون في حالات ما بعد النزاع لمنع وتعطيل وتفكيك أنشطة الجريمة المنظمة، بما في ذلك الاتجار بالمخدرات والاتجار بالبشر والاتجار بالأسلحة النارية واستغلال الموارد الطبيعية.


شارك المقالة: